رمضان كريم وكل عام وانتم في تمام الخير والبركة



تاريخ الصيام




للأستاذ: أبي الحسن الندوي




الصوم في الديانات القديمة :
اشتملت جميع الأديان والشرائع المعروفة في التاريخ على الصوم ، وطالبت به جميع من كان يدين بها ، فمن أقدم الديانات ، والتي لا يزال عدد كبير من الناس يدين بها الديانة الهندية البرهمية ويحدث عنها الأستاذ T.M P,Mahadevan رئيس قسم الفلسفة في جامعة مدارس الهند ، وهو بشرح الصوم ومكانته في الشريعة الهندوكية والمجتمع الهندي :
" ومن الأعياد والأيام المحتفل بها في السنة ما خصصت للصوم الذي تقصد به تزكية النفس ، أن كل طائفة من الطوائف الهندكية تخصيص فيكفون عن الطعام ، ويسهرون الليل كله ، ويبيتون يتلون الكتب المقدسة ويراقبون الله ، ومن أعم هذه الصيام ، وأكثرها انتشاراً في الطوائف المختلفة ، (ويكنته إبكاوشي) الذي ينسب إلى (وشنو) فلا يصوم ذلك اليوم أتباع وشنو فحسب بل يصومه أكثر الناس ، فيصومون نهارا ، ويسهرون ليله.
ومن الأيام ما يصومها النساء فقط ، ويدعون الآلهة (مظهر صفات الله النسوية) في مختلف مظاهرها ، وتسمى هذه الأيام لأهميتها الخاصة بـ (برت) أو العهد ، وقد خصصت لتزكية الروح ، وغايتها تغذية الروح بالغذاء الروحاني " .
ولا يزال البراهمة يصومون في اليوم الحادي عشر والثاني عشر من كل شهر هندي ، وهكذا يبلغ عدد الأيام التي تصام عند البراهمة 24 يوماً في كل سنة ، إذا حافظوا عليها وتقيدوا بها ، وقد فاقت الديانة الجينية في الهند في التشديد في شرائط الصوم وأحكامه ، فأتباعها يواصلون أربعين يوماً بالصوم.
ويظهر الصوم عند المصريين القدماء بجوار أعيادهم الدينية ، وكان صوم اليوم الثالث من شهر (تهسموفيريا) اليوناني خاصاً بالنساء عند اليونان ، ولا تخلوا الصحف المجوسية عن الأمر بالصوم والحث عليه ، ولو لطبقة خاصة ، وتدل آية وردت في بعض كتبهم المقدسة على أن صوم خمسة أعوام كان فريضة على الرؤساء الدينيين.
الصوم عند اليهود :
أما اليهود فقد كان الصوم يعتبر رمزاً للحداد والحزن عندهم في العهد البابلي ، وكان يلجأ إليه إذا هدد خطر ، أو إذا كان كاهن أو (ملهم) يعد نفسه لإلهام ، أو (نبوة) ، وكان اليهود يصومون مؤقتاً إذا اعتقدوا أن الله ساخط عليهم ، غير راضٍ عنهم ، أو إذا حلت بالبلاد نكبة عظيمة ، أو خطب كبير ، أو إذا أصيبت البلاد بوباء فاتك ، أو بجدب عام ، وفي بعض الأحيان عندما يعزم الملوك على مشروع جديد.
أيام الصيام المحددة الدائمة قديمة ومحدودة في التقويم اليهودي ، علاوة على يوم الكفارة ، يوم الصوم المقرر الوحيد في الديانة الموسوية ، وكانت هنالك أيام معينة للصوم الدائم ، في ذكرى حوادث أليمة ، وقعت لليهود في أيام الأسر في (بابل) وهي تقع في الشهر الرابع (تموز) وفي الشهر الخامس (آب) وفي الشهر السابع (تشري) وفي الشهر العاشر (تبت) ويرى بعض ربيي (التلمود) أن صيام هذه الأيام إجباري عندما يعيش الشعب الإسرائيلي تحت قسوة الحكومات الأجنبية وفي اضطهاد ، ولا تلزم عندما يتمتع الإسرائيليون بأمن ورخاء.
وزيدت إلى أيام الصيام هذه أيام أخرى ، تصام تذكاراً لكوارث ومآسي نزلت باليهود ، وأضيفت إلى الأول على مر الأيام ، وهي لا تعتبر إلزامية ، ولم تنل الحظوة الكافية عند الجمهور ، ومع اختلاف يسير يبلغ عددها إلى خمسة وعشرين يوماً.
وهنالك أيام صيام شعبية محلية تختلف باختلاف الأقاليم والمناطق التي يسكنها اليهود منذ زمن بعيد ، وهي تذكار كذلك لكوارث وخطوب أصيبت بها هذه الشعوب في أوقات مختلفة ، واضطهاد وقسوة تعرضوا لها في بعض الحكومات ، وأيام صياح تصومها بعض الطبقات دون بعض في ذكرى وقائع ومحن في تاريخ اليهود ، وفي ذكرى مآتم وأفراح في حياتهم الشخصية ، وصوم أول يوم من السنة شائع في كثير من الطبقات ، وهنالك أيام صيام تشرع ، ويأمر بها الربيون إذا تعرض الشعب لخطر ، أو تأخر المطر ، أو أصيبت البلاد بمجاعة ، أو صدرت مراسيم قاسية ، أو قوانين غليظة.
وأيام الصيام الشخصية المختارة التي يفضلها بعض الأفراد دون بعض شائعة في تاريخ اليهود منذ زمن مبكر ، وهي أيام صوم تذكارية لبعض الحوادث الفردية ، أو كفارة عن بعض المعاصي والآثام ، أو لجلب رحمة الله وعفوه عند خطر داهم ، أو بلاء نازل ، وصوم تلك الأيام لا يشجعها الربيون ، ولا يوافقون عليها إذا كان الصائم رجلاً علمياً ، أو أستاذاً معلماً ، حتى لا يشوش ذلك خاطره ، أو يضعف صحته ، وهنالك صوم يصام على إثر رؤيا مفزعة ، ولما كانت الشريعة اليهودية لا تسمح بالصوم في أيام الأعياد (فالتلمود) يبيح هذا الصوم في هذه الأيام ، بشرط أن يكفر عنه بصوم آخر في أيام عادية.
والصوم عند اليهود يبتدئ من الشروق ، وينتهي عند ظهور أول نجوم الليل ، إلا صوم يوم الكفارة ، واليوم التاسع من شهر (آب) فإنه يستمر من المساء إلى المساء ، وليس هنالك أحكام وتقاليد للصيام العادية ، وقد رغب في الصدقة وإطعام المساكين ، وخصوصاً توزيع العشاء المعتاد التقليدي.
إن الأيام التسعة الأولى من شهر (آب) وبعض أيام بين اليوم السابع عشر من شهر (تموز) وبين اليوم العاشر من شهر (آب) تعتبر أيام صوم جزئي فيحرم فيها تناول اللحوم ، وتعاطي الخمور فقط.
الصوم عند المسيحيين :
أما الصوم عند المسيحيين فيطول شرحه وتفصيله ، لأن الديانة المسيحية هي من أقل الديانات تشريعاً فقهياً وأحكاماً كلية تشمل أدوار التاريخ والمجتمعات المسيحية والطوائف الدينية كلها وأكثرها تطوراً مع الزمن والعوامل السياسية والاجتماعية والاقتصادية أحياناً ، ولذلك يصعب أن يطلق عليها اسم شريعة إلهية ، وقد حاولنا أن نقدم صورة موجزة عن الصوم عند المسيحيين وما مر به من أدوار وأطوار :
المسيح صام أربعين يوماً قبل أن يبدأ رسالته ، ومن المرجح أنه كان يصوم يوم الكفارة ، الذي كان الصوم المفروض في الشريعة الموسوية ، ككل يهودي مخلص ، إنه لم يشرع أحكاماً للصوم ، إنه خلف المبادئ وترك كنيسته تقنن قوانين لتطبيقها ، وليس لأحد أن يزعم أنه أصدر قوانين عن الصوم رأساً ، إننا نقرأ في المصادر المسيحية حديثاً عن صوم (بولس) والمسيحيين الأولين ، إن المسيحيين الذين كانوا من السلالة الإسرائيلية ظلوا يصومون يوم الكفارة ، وينوه به الراهب بيوك كيوم يحتفل به ، ولكن المسيحيين الذي ينتمون إلى أصول أخرى لم يلحوا على ذلك.
وبانتهاء القرن المسيحي الأول ونصف قرن بعد وفاة القديس (بولس) نواجه رغبة ملحة في تقنين القوانين للصوم ، وقد كان ذلك مولاً إلى تقوى الصائم ، نرى الرهبان وبعض رجال الكنيسة يقترحون صياماً ليقاوم به المسيحيون الإغراءات المادية والجنسية ، وكان يسود في ذلك العصر شعور بالواجب ، وتحذير عن أن يظل الصوم عملاً خارجياً لا يؤثر في نفس الصائم ، ويتحدث القديس (ايرينيس) عن أنواع الصيام ، منها ما يستغرق اليوم ، ومنها ما يستغرق يومين ، أو بضعة أيام ، ومنها ما كان يستغرق أربعين ساعة متوالية ، وقد استمر هذا الوضع مدة طويلة ، وكان صوم (جمعة الآلام أو الصلبوت) صوماً شعبياً عاماً ، وكان صوم يوم الأربعاء ويوم الجمعة في كل أسبوع شائعاً في بعض الأقطار في القرن الثاني المسيحي ، وكان الذين ينتظرون الاصطباغ (التعميد) يصومون يوماً أو يومين ، وكان يشترك فيه الذين يأخذون الاصطباغ والذي يتولى ذلك.
وهنالك خلافات جزئية في مناهج الصوم وأحكامه في الطوائف المسيحية ، وقد نال الصوم قسطاً كبيراً من التنظيم والتقنين في فترة بين القرن الثاني والقرن الخامس المسيحيين ، فقد أصدرت الكنيسة قائمة أحكام وتوجيهات عن الموضوع ، وقد اتسم الوصم بصلابة وشدة في القرن الرابع ، فقد انتقل من طور الرقة والتوسع المرونة إلى طور الصلابة والغلظة والتدقيق ، وقد حدد اليومان اللذان يسبقان (عيد الفصح) بالصوم في هذا العصر ، وكان الصوم في هذين اليومين ينتهي في نصف الليل ، والمرضى الذين لا يستطيعون أن يصوموا في هذين اليومين كان يسمح لهم أن يصوموا يوم (السبت) وقد سجلت في تاريخ المسيحية والمسيحيين في القرن الثالث أيام الصوم ، وكان هنالك اختلاف في نهاية الصوم ، فكان بعضهم ينهي ويفطر عند صوت الديك ، وبعضهم إذا أرخى الليل سدوله.
أما صوم أربعين يوماً ، فلا يوجد له أثر إلى القرن الرابع الميلادي ، وكانت هنالك عادات وأوضاع للصوم تختلف باختلاف التي يسكنها المسيحيون ، فكان في (روما) صيام يختلف عن الصيام في (لانان) و (الإسكندرية) وكان بعضهم يمسك عن تناول الحيوانات خلافاً لغيره ، وبعضهم يجتزئ بالسمك والطيور ، وبعضهم يضرب عن البيض والفواكه ، وبعضهم يجتزئ بالخبز اليابس ، وبعضهم يكف عن كل ذلك ، وقد شرعت أيام أخرى للصوم في القرون المتأخرة تذكاراً لحوادث وأيام تتصل بحياة المسيح وبتاريخ المسيحية يطول عدها ، منها ما كان يستغرق ثلاث ساعات ، وأربعاً ، ويمسك فيها الصائم عن الأكل والشرب ، وقد حددت أيام مختلفة في القرون الوسطى للصوم في العالم المسيحي ، تطورت مع تقدم الزمن ، وهي تختلف باختلاف الاقاليم والبلاد التي تحكم عليها الكنيسة المسيحية.
وبعد الإصلاح حددت الكنيسة الإنجليزية أيام الصوم ، ولم تقنن قوانين وحدوداً للصائمين ، تاركة ذلك لضمير الفرد وشعوره بالمسؤولية ، ولكن قوانين البرلمان الإنكليزي في عهد (إيدورد الساس) و (جيمس الأول) و (مرسوم اليزيبت) فرض الإمساك عن اللحوم في أيام الصوم ، وبرر ذلك بقوله : (إن صيد السمك ، والتجارة البحرية ، يجب أن تجشع وتربح).
لذلك لما شرع الله الصوم في الإسلام ، وفرضه على المسلمين ، قال : { يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون } .
جناية التخيير وعدم التحديد ، والحرية الزائدة في الصوم على مقاصده وفوائده :
وقد تجردت بعض الأيادن والشرائع القديمة عن تعيين أيام الصوم وتحديدها بالبداية والنهاية ، وضبطها بالأحكام ، فكان الأمر بالخيار ، وكان الناس في كثير من الأديان مخيرين في اختيار الأيام التي يصومونها ، وفي تحديدها ، وكانوا مخيرين بين إمساك شامل عن المأكول والمشروب ، وبين تقليل من الطعام والشراب ، وكانوا مأمورين بترك بعض المطعومات ، واختيار بعضها ، كما جرى العمل به في بعض الديانات الهندية ، فيمسك بعضهم عن أكل اللحوم ، وبعضهم عما طبخ على النار ، ويجتزئ بعضهم بألوان من الطعام ، أو بالماء الممزوج بالملح.
وقد جنى ذلك على الصوم قديماً ، فضيعه وأضعف قوته ، فكان للإنسان أن يصوم متى يشاء ، وما شاء ، وأن يجتزئ بطعام واحد أو بشراب ، وأن يقتصر على المقدار القليل ، والأمر موكول إلى الصائم فتطرق الوهن ، وتسربت الخيانة إلى النفوس ، وتخطى الناس الحدود ، وصعبت المحاسبة ، فرب مفطر إذ حوسب تعلل بأنه قد صام فيما مضى ، ومن يدري ذلك ؟ ورب متجاوز في الأكل إذا وجه إليه النقد اعتذر بأنه المقدار القليل الذي أمر به على الصوم ، وهكذا ضاع الصوم في الأمم القديمة وفقد تأثيره وفوائده الروحية والخلقية.
وإلى هذه الحكمة الدقيقة في التحديد والتعيين ، أشار شيخ الإسلام أحمد بن عبدالرحمن الدهلوي في كتابه (حجة الله البالغة) فقال :
" وإذا رقع التصدي لتشريع عام ، إصلاح جماهير الناس ، وطوائف العرب والعجم وجب أن لا يخير في ذلك الشهر ، ليختار كل واحد شهراً ليسهل عليه صومه ، لأن في ذلك فتحاً لباب الاعتذار والتسلل ، وسداً لباب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وإخمالاً لما هو من أعظم طاعات الإسلام ".
ثم يقول وهو يذكر الحاجة إلى تعيين المقدار :
" ثم وجب تعيين مقداره لئلا يفرط أحد فيستعمل منه ما لا ينفعه وينجع فيه ، ويفرط مفرط فيستعمل منه ما يوهن أركانه ويذهب نشاطه ، وينفه نفسه ، ويزيره القبور ، وإنما الصوم ترياق يستعمل لدفع السموم النفسانية مع ما فيه نكاية بمطية اللطيفة الإنسانية ومنصتها ، فلا بد من أن يتقدر بقدر الضرورة".
تقليل الغذاء وتحديده ، أم إمساك مطلق ؟
ويقارن بين منهجين للصوم المعروفين عن الطوائف والأمم ، الأول : الإمساك عن الأكل والشرب وما ينافي الصوم بتاتاً في مدة محدودة معلومة ، والثاني : تقليل الغذاء ، أو الاجتزاء بشيء واحد ، وترك بعض المرغوبات والمألوفات فيفضل الأول على الثاني في ضوء التجارب والتحليل العلمي وعلم النفس يقول :
" ثم إن تقليل الأكل أو الشرب له طريقان : أحدهما : أن لا يتناول منهما إلا قدراً يسيراً والثاني : إن تكون المدة المتخللة بين الأكلات زائدة على قدر المعتاد ، والمعتبر في الشرائع هو الثاني لأنه يخفف وينفه ، ويذيق بالفعل مذاق الجوع والعطش ، ويلحق البهيمية حيرة ودهشة ، ويأتي عليها إتياناً محسوساً ، والأول إنما يضعف ضعفاً يمر به ، ولا يجد بالاً حتى يدنفه.
وأيضاً فإن الأول لا يأتي تحت تشريع العام إلا بجهد ، فإن الناس على منازل مختلفة جداً يأكل الواحد منهم رطلاً والآخر رطلين ، والذين يحصل به وفاء الأول هو إجحاف الثاني ".
ويذكر أنه لا بد من الاعتدال في هذا التوقيت والتحديد ، فيقول :
" ثم يجب أن تكون تلك المدة المتخللة غير مجحفة ولا مستأصلة ، كثلاثة أيام بلياليها ، لأن ذلك خلاف موضوع الشرع ، ولا يعمل به جمهور المكلفين ".
صيام مجموعة متتابعة ، أم متشتتة موزعة ؟
وكانت الأيام التي تصام في كثير من الديانات القديمة ، وعند طوائف من الأمم أياماً موزعة مبعثرة في طول السنة ، تتخلل بينها فترات طويلة تفقدها التأثير في الأخلاق والميول والعادات ، ولا تجعل النفس تنصبغ بها ، فكان من المصلحة والحكمة أن تتوالى هذه الأيام وأن تتكرر ، يقول شيخ الإسلام الدهلوي رحمه الله :
" يجب أن يكون الإمساك فيها متكرراً ليحصل التمرن والانقياد ، وإلا فجوع واحد أي فائدة يفيد ، وإن قوي واشتد".
وقد جاء التشريع الإسلامي للصوم مستوفياً لجميع هذه الشروط والصفات ، محققاً لجميع هذه الأغراض والنتائج الروحية والخلقية ، والنفسية والاجتماعية وكان ذلك صيام رمضان الذي فرضه الله على المسلمين.



...المصدر ...
 



















منقول