المزج اللغوي وسيلة لقولبة المعاني

إن اللغة التي استخدمتها الشاعرة فاطمة الفلاحي في ديوانها ( تراتيل أنثى ) لغة بسيطة وسهلة من حيث المفردات اللغوية فلم أجد فيه إلا العدد الضئيل من الكلمات التي لم تشع بين القراء بشكل واضح مثل كلمة ( سامق ) التي ذكرتها الشاعرة في قصيدة ( هواكا ) وعلى الرغم من هذه البساطة اللغوية إلا إن شاعرتنا استخدمت نوعا من المزج اللغوي الشكلي استخدمته أفضل استخدام لتوظيفه بالجمع بين عدد من المعاني ولولا هذا المزج في الشكل لما استطاعت الشاعرة إيصال المعنى إلى المتلقي ، وهذا المزج الفريد من نوعه قد تكرر كثيرا ، وهو دال على دقة في الاختيار عند التوقف عند حدث ما ومحاولة إثراءه من خلال معناه بهذه الطريقة ، وقد تجاوزت كرة شاعرتنا حدود اللغة التي عجزت – عكس ما يقول حافظ إبراهيم – عن توضيح المعنى والفكرة المعمقة ، لو استخدمت بالشكل التقليدي ... ولعلك عزيزي القارئ ستشاطرني الرأي بعد إن أورد إليك مجموعة من المقاطع الدالة على هذا المزج الغريب والذي لا يفهمه إلا من كتب النحو وناقش نظرياته ومدارسه المتعددة وإذا بشاعرتنا تنافس النحويين في بابهم والشعراء في قصائدهم ...
إن هذا المزج اللغوي يدل على إن فاطمة الفلاحي شاعرة بالفطرة إذ أنها استطاعت إن توازن بين الشكل ومعناها الذي تتوخاه مهما كان هذا المعنى عميقا ، وهو دليل على مقدرتها كشاعرة تتلاعب بالحروف والكلمات كيفما تشاء كما هو حال خيالها المحلق .

واليك عزيزي القارئ بعض المقاطع التي استخدمت فيه شاعرتنا هذا المزج اللغوي :

في قصيدة : ( يمارسني الصحو ) .... تقول شاعرتنا
يمارسني الهم مطرا
أضافت الشاعرة ياء المخاطبة إلى الفعل المضارع ( يمارس ) مما أعطى لهذا المقطع معنى مختلفا تماما عما لو صاغته بالطريقة التقليدية ... فقد كان للشاعرة مساحة واسعة من الأشكال ( الكلمات ) بألفاظ أخرى ، حيث كان من الممكن إن تقول : ( إياي يمارس الهم مطرا ) حيث تقوم بفصل ياء المخاطبة وجعله مفعول به مقدم .
ولكن هذا الشكل لا ينسجم مع المعنى الذي توخته شاعرتنا فهي هناك ترمي إلى مرمى بعيد لا تستطيع هذه الجملة إن توضحه وتفسره بل سيبقى هنالك عدد من علامات الاستفهام حول القطع الحاصل في كلمة ( مطرا ) التي جاءت بشكل مبهم في الصيغة الثانية ، وسنتأمل هذا البيت الشعري في حلقات قادمة ، ولكن من حيث الشكل نستطيع القول : إن هذا المقطع الذي اختارته الشاعرة أفضل من المقطع التقليدي الذي مثلنا به .
ولكن توجد هناك أشكال أخرى لصياغة هذا المقطع غير الشكل الذي ذكرناه مثل :
( إياي يمارس الهم كالمطر )
أو ( يمارسني الهم كالمطر )
أو ( يمارس الهم إياي كالمطر )
وغيرها من الجمل التي لا تصل إلى أصل المقطع ، فليس هناك فصل بين الشكل والمضمون بل إن الأشكال اللغوية التي أوردناها هي في معرض الفصل والقطع لأنها لا تعدو إن تكون جملا عادية لا تحمل معنى دقيقا ولا فكرة مجردة خارجة عن تلك الذات الدنيا ... أو فكرة مجردة نازلة من الذات العليا ....
ولم تهمل شاعرتنا هذا المعنى بل أجادت في اختيارها ... ولو نظرت بعين الناقد الأديب لرأيت طوفانا من المعاني في ثلاث كلمات ( يمارسني الهم مطرا ) فيها فعل وفاعل ومفعول به وتمييز واسم مصدر وازيدك أيها الناظر انك إن أعربت المقطع نحويا فستصل إلى معان ابعد وإذا ما فكرت فربما دخلت بابا لما يعنيه هذا المقطع .
ومن المهم جدا إن أذكرك إنني أومن نقديا بان دراسة النص يعتمد بالاساس على اللاشعورية التي تستطيع من خلالها استشفاف أكثر من معنى .
وفي نفس القصيدة ( يمارسني الصحو ) تقول الشاعرة فاطمة الفلاحي :

وأصحو على قطار العمر
قد مسه أنامل الشوق حنينا
فلا يتحركني

وقبل إن تمضي في تأملاتي هلا تأملت معي لدقيقة في قولها : ( فلا يتحركني ).
إلا تستشعر معي إنها جملة قلما يوفق إليها شاعر في ترجمة معنى متداخل في معنى آخر ... إلا ترى إن احد الكتاب القدامى قد همس في أذنها أو دغدغ أناملها لتكتب هذه العبارة ...
فان كانت هي غير عاجزة في قولبة معناها وجاءت هي بالسهل الممتنع فان هناك شعراء يفشلون تماما في تجميع الأضداد المختلفة المعنى في مقطع قصير .
ولا باس إن أشركك عزيزي القارئ وأسألك عما يجول في ذهنك لتبديل هذه العبارة ( فلا يتحركني ) وأي شكل سوف تختاره ... سأتركك الآن في تأملاتك ريثما تصلك تأملاتي عند هذا المقطع في حينها ...
وفي قصيدة ( بين نفسي ونفسي ) هناك مقطع فيه من التركيب والمزج اللغوي ما هو الأجمل والأصعب في قولها :

سأمضي صوب جبل الشريان
ليعصمني من جنوني
سأحرقني فلا يبقيني

لاحظ ( سأحرقني ) وما تحمله هذه الكلمة من مزج لغوي معقد جدا يحتوي على عدة تراكيب لغوية مندمجة مع بعضها وانصهرت في قالب واحد يجمعها كلها .
ولا تستعجلني أيها القارئ في إن أجيبك عن تلك التراكيب أو إن أحيطك بها خبرا فاني مجرد متأمل ومن سمات المتأملين عدم الاستعجال .
أنا لا أريد منك عزيزي القارئ سوى إن تتأمل ... ولنمض معا في نفس موضوعنا ( المزج اللغوي وسيلة لقولبة المعاني ) في ديوان ( تراتيل أنثى ) للشاعرة المبدعة ( فاطمة الفلاحي )...
في قصيدة ( أمضي ) :

سأتركني عند قلبك
وامضي

المزج اللغوي موجود في كلمة ( ساتركني )

أما في قصيدة ( تأويل ) فتطل علينا الشاعرة بمزج هو الأغرب شكلا ومضمونا حيث تقول :

سأستبيح للحلم استغلالي
فيسرقك هدهدي
وسأهديني من شفة فجرك
تأويل الصباحات

إن الشكل هنا قد طابق المعنى تماما خصوصا عندما جاءت الشاعرة بلفظ ( سأهديني ) الذي أعطى بعدا خامسا للمعنى ولولا هذا المزج الموجود في هذه الكلمة وربطه بما قبله وبما يأتي بعده لصار المقطع خاليا عن المعنى تماما ...

ولولا سأم الإطالة لأوردت الكثير من الشواهد الشعرية التي نجحت الشاعرة في قولبتها معنا من خلال مزجها وتركيبها اللغوي الذي أجادت فيه وأبدعت .