4- الشعر السياسي
يعتبر الشعر السياسي الغرض الاكبر حجماً في ديوان الجواهري، وذلك أن هذا الغرض هو الوسيلة والهدف معاً، لقد جمع بينهما، أي جمع بين روعة وقمة الفن الشعري وبين الاحتراف السياسي، والسياسة في مذهبه لا تعني سوى، الخوض في غمار الأحداث، الأحداث التي ترتبط بمصير الجميع، فهي ليست من باب التملق السياسي وارتداء زي السياسيين بغية مطالب ومكاسب، بل السياسة عنده المقاومة، عدم الركون، الغربة والابعاد، هذه هي مفرداته السياسية و الشعرية. وقد تشابكت وتلاحمت قصائده مع حياته السياسية، فلا شعر دون مقاومة الطغاة، و دون الوقوف في الصف الامامي في مظاهرات الشعب، ولا شعر دون تمجيد الشهداء والوقوف مع المظلومين والمنكوبين، ومقارعة أعوان الاستعمار وأذنابه، فهو سجل حافل بالتاريخ السياسي للعراق والأمة العربية. لا يمكن لمن يريد أن يدرس الأوضاع السياسية في العراق منذ مطلع القرن العشرين وحتى الثمانينيات، تجاهله، شاعراً سياسياً، صانعاً للأحداث، محركاً للتطلع والآمال، حامياً للضعفاء والمحرومين، حاضراً في قلب المسيرة وكأنما السياسة عاجزة عن التخلي عنه ولا الجواهري بامكانه التجزؤ والانفراد دونها، ولعله الشاعر الذي امتاز بين أقرانه من فطاحل الشعراء لم يركن، ولم يهدأ، ولم يخمد وكانت عصاه في كل حال على أهبة الاستعداد ودون كلل:
أنا حتفُكم أَلِجُ البيوتَ عليكم أغري الوليدَ بِشَتْمِكُم والحاجِبا
بعيداً عن كل ماقاله الجواهري تبقى الصورة السياسية والغرض السياسي هو الطابع الأكثر وضوحاً والأكبر مساحة في شعره. واليوم لا يمكن للمؤرخ المنصف لتأريخ العراق الحديث أن يكون صورة موضوعية عن نضال الشعب العراقي في سبيل حرياته الديمقراطية وحقه في المواطنة الكريمة، والمشاركة في الحكم دون أن يقرأ ديوانه قراءة متفحصة، وأيا كانت الصورة التي يخرج بها فانه لا يستطيع أن يهمل دور الكلمة الشعرية هذه، لسنا نقصد بذلك أن شعره أصبح وثيقة تاريخية بالمعنى الضيق للكلمة، بل نعني أن شعره كان التعبير الفني الأكثر صدقاً ونضوجاً عن معاناة الشعب العراقي ومأساته الدامية، وبالأخص منذ أربعينيات هذا القرن وحتى الوقت الحاضر.(الراضي، مجلة المدى، عدد 19) لقد ذاعت شهرته ذيوعاً كبيراً لاسيما بعد الحرب العالمية الثانية وبعد أن وصل صوته الى ساحة شعر الوطن العربي كله، واقترن اسمه بتاريخ العراق السياسي الحديث. (علوان، ص 257) فقد صرخ للعراق، وصرخ لكل العرب في مصر، ولبنان، وفلسطين، والمغرب، والجزائر وسوريا، فقد استوعب فضلاً عن العراق ومصائبه هموم الوطن العربي:
يتبَجحوُنَ بأنّ مَوجاً طاغياً سَدُّوا عليهِ مَنافذاً ومَساربا
كذبوا فَمِلء فمِ الزمان قصائدي أبداً تجوبُ مشارقاً ومَغاربا
تستَلُّ من أظفارِهم وتحطُّ من أقدارِهمْ ، وتثلُّ مجداً كاذبا
لقد أكتنز في خياله كل ما مر على قومه وبلاده من عسف وجور من الحاكمين خلال القرون السبعة المظلمة، ورأى مجتمعه الذي يعج بالمشاكل والعقد، فاندفع يصور ذلك ويفهم الجيل الحائر بما يتصوره من مثل وآراء وسلوك (الخاقاني، ص160) اشتهر بلقب شاعر العراق الأكبر، وصار من مشاهير الشعراء وأكثرهم نظماً في الشعر السياسي والاجتماعي، وربما لا تجد حدثاً في العراق والوطن العربي لم يتناوله في شعره (الفتلاوي، ص 613) فلاعجب أن يشتمل شعره على السياسة، اشتمال الجسم للروح، فهو يعيش أحداثاً جسام، يرى سقوط الدولة العثمانية ويسمع تراتيل الثورة العربية بقيادة الشريف حسين، ومن ثم خمود الثورة ونفي قائدها، وقد جسد الحادثة بقصيدته "سجين قبرص" حين قال:
هي الحياةُ بإحْلاء وإمْراء تَمْضي شعاعاً كزندِ القادحِ الواري
سجيةُ الدهرِ والبَلْوى سجيتُهُ تقلبُ بين اقبالٍ و إدبارِ
من هنا يستهزأ بالاستعمار البريطاني ووعوده الكاذبة:
ما للتَّمدنِ لاينفكُّ ذا بِدَعٍ في الكونِ يأنف منها وحشة الضاري
كم ذا يسمون أحراراً وقد شهدت فـعـالهم أنـــها من غير أحـــرار
ثم على عادته ينهض بالعرب ويدعوهم الى الوعي والفطنة وتجنب الاغفال والوقوع فريسة لخداع وخيانة الاعداء: (من قصيدة سجين قبرص، الجواهري في العيون ....، ص 62)
نهضاً بني العرب العرباء إنَّكُم فرائسٌ بينَ أنيابٍ وأظفارٍ
أَ رقدةً وهواناً أنَّ بعضَهما مما يفت بأصفادٍ وأحجارٍ
ولا يفوت الجواهري وهو يعيش أعظم حدث سياسي في تاريخ العراق الا وهو ثورة العشرين ضد الاستعمار الانكليزي. فانبرى لها وساندها ونظم قصيدة "الثورة العراقية" التي ناهزت الخمسة وثمانين بيتاً، متباهياً ببطولات الثوار وخاصة زعيم الثورة المرجع الديني الشيرازي داعياً الشعب الى وحدة الكفاح وازالة الخلافات المذهبية من أجل وحدة الامة وانتصارها حينما قال:
لَعَلَّ الذي وَلَّى مِنَ الدَّهرِ راجعُ فلا عيش إن لم تبقَ الا المطامعُ
تُحَدِّثُ أوضاعُ العِراقِ بِنهضةٍ تُرَدِّدُها أسواقُهُ والشَّوارِعُ
وصرخَةُ أغيارٍ لانهاضِ شَعْبِهِمْ وإنعاشُهُ تَسْتَكُّ منها المسامعُ
ثم يوجه خطابه الى ناشئة العراق وشبابه باعتبارهم الأمل والعمود الفقري لمستقبل ثورة العراق:
لنا فيك يا ناشىءَ العراقِ رغائب أيسعفُ فيها دهرُنا أم يُمانعُ
ستأتيكَ يا طفلَ العراقِ قصائدِي وتَعْرفُ فحواهن اذ أنتَ يافِعُ
وهنا يخاطب قائد الثورة العشرينية ويوصفه بالقائد الذي ينام بعين وبأخرى ساهرة عن أبناء الشعب ليتقيهم شرور الأعداء: (من قصيدة الثورة العراقية، ديوان الجواهري، ج 1،ص 101)
ومحى لليل ألتم يحمي بطرفه ثغوراً أضاعتها العيونُ الهواجعُ(1)
مهيب اذا رامَ البلاد بلفظةٍ تدانَتْ لَهُ أطرفُهُنَّ الشَّواسِعُ
ينامُ بإحدَى مُقْلَتَيْهِ ويَتَّقِي بأخُرَى الأعادِى فَهْوَ يقظان هاجِعُ
(1) الهواجع: جمع هجع، النوم، العيون الهواجع: العيون النائمة
هذا هو الجواهري الشاعر السياسي الذي يتزاحم رؤساء الأحزاب السياسية والقواد ببابه، فقد كان صوتاً يطالب بالاستماع اليه كل قادم الى العراق مما اضطر رجال السلطة الى دعوته، مما زاد في شهرته تلك، الصحف التي أصدرها (الموسوي،، ص 159) فالجواهري من شاعر نجفي، ثم مدرس في المدارس، الى رئيس تشريفات أقوى ملك عربي في حينه، وهو الملك فيصل الأول ملك العراق، والى الجواهري الصحفي المحرك للأحداث، والنائب الممثل للشعب في المجلس الوطني، هذه كلها عوامل أصقلت الروح الشعرية لديه نحو السياسة، لتكون السياسة هي البعد التعبيرى المجسد لآلام وأماني الأمة. أما على مستوى الوطن العربي فقد غنى الجواهري للعرب جميعاً أنشد للمظلومين في فلسطين، أنشد لمصر وسوريا، والجزائر، وتونس، وبقية أرجاء الوطن العربي، أما قصائده الذائعة الصيت "غاشية الخنوع"، و«فاحت جروح فلسطين» و«باق أعمار الطغاة قصار» و«الثورة السورية»، و«أطبق دجى» و «يوم الشهيد» و«أخي جعفر»، و«يا دجلة الخير» و«يا أمتي يا عصبة الأمم» الا غيض من فيض ابداعياته لتسخير القافية في خدمة الأحداث السياسية. هذا و تأثر الجواهري من البعد العالمي والعوامل الأخرى التي أوجدت لديه توجهاً سياسياً أدبياً، وأثرت تأثيراً مباشراً على الشعر السياسي لديه صعوداً وتألقاً. فلقد كان له حضور في أرقى وأشهر المؤتمرات الدولية، وألتقى في حياته بأعلام مشهورة لهم الأثر الخالد على الابداع البشري بشكل عام. فقد حضر عام 1948م أول مؤتمر للسلام العالمي في بولندا وكان ضمن الوفد الثنائي هو وطه حسين لتمثيل العالم العربي في هذا المؤتمر، ولأسباب مجهولة يتفرد بالحضور ويتغيب طه حسين عن المؤتمر ليصبح هو ممثل العرب الوحيد، ولقد التقى على هامش هذا المؤتمر بالفنان العالمي «بيكاسو»، والشاعر «بابلو»، والروائي الشهير «البرتومورافيا» و«مدام كوري» وغيرهم (الراضي، مجلة المدى، عدد 19) وطالما قال: (نفسه)«لا يزال في نفسي أثر لا يمحى لأولئك الرجال العظام الذين تركوا بصماتهم الخالدة في كل مجال من مجالات الحياة وفي سير الاحداث في العالم» لقد كان في موقع تكريم وتمجيد من قبل مؤسسات عالمية ثقافية وسياسية، فالموسوعة البريطانية العالمية الشهيرة اختصت الجواهري باعتباره واحداً من المشاهير في العالم وكذلك الموسوعة البريطانية، العربية الجديدة أشارت اليه بصفته من مشاهير الشخصيات في العالم وذلك في رسالة بعثتها الى الشاعر (الجواهري في العيون، ص 39.) لا ريب انه لا يستطيع أن يتخلص من نزعته السياسية حتى وهو يلتقي بصديقيه ابراهيم عبد القادر المازني واسعد داغر ببغداد
الموسوي، ص 161)
أَأسْعَدُ إنَّ حديثي اليكْ حديثَ مقيمٍ الى ظاعِنٍ
حديثَ أخٍ لكَ مُسْتَأْنسٍ لِلُطْفِ مُسامرِهِ راكِنِ
أخافُ السياسةَ خوف اللَّدِيـ ـغِ مِنْ أَرْقَمٍ نافِخٍ شاحنٍ
وحتى في مناجاته مع نفسه وحواراته النفسية تطفح بالقضايا السياسية ويتحرق ويتلوع لامر السياسة التي لم تأت على ما يريده، أو لم تكن متآلفة مع طموحاته وآماله.
في قصيدة يا "أبن الثمانين" قالها وكأنه يخاطب العراق في ثمانينه بعد عقود من المسرات والأوجاع عاشها الجواهري والعراق في بدن واحد، قال "ياابن الثمانين" وفي نفسه غصة أن يرى العراق ويموت فيه ولكن: (جريدة الزوراء، عدد 155)
حَربٌ عَلَى كُلِّ مَوْهوبٍ وموهبةٍ لديهِ مُسرجة الأضواءِ والشُّعَلِ
ثَبِّت جنانكَ لِلْبَلْوَى فَقَدْ نُصِبَتْ لكَ الكمائنُ مِنْ غدرٍ ومِنْ خَتَلِ
لقد كان الشعر السياسي للجواهري شعراً ملتزماً واعياً للظرف السياسي، مترجماً لجزءيات الأحداث السياسية للعامة من الناس يفوح منه رايحد الدم والتحدي المكشوف متبعاً للنظرية الجواهرية التي تقول "أقول الشعر وليحدث ما يحدث" وجامع الحيدرخانه شاهد باق، وكذلك مناطق أخرى من بغداد. وها هو يتصدر غضبه الجماهير وتجمعهم في تأبين شهداء الوثبه عام 1948م، شهداء الجسر بما فيهم الشهيد جعفر أخو الجواهري، حيث يصرخ بوجه الطغاة ويعلن:
أتعْلمُ أمْ أنتَ لا تعْلمُ؟ بأنَّ جراحَ الضَّحايا فَم ُّ؟
فمّ ٌ ليسَ كالمدَّعِي قولة ً وليسَ كآخرَ يسترحم ُ
يَصِيحُ عَلَى المُدْقِعينَ الجياعْ أَرِيقُوا دماءَكُمُ تطعَموا(1)
ويَهْتفُ بالنَّفَرِ المُهْطِعين أهينوا لِئامَكمُ تُكرَمُوا
أَتَعَلْمُ أنَّ رقابَ الطغا.............................ةِ أثقلَها الغنْمُ والمأثمُ
وأنَّ بطونَ العُتاةِ التي منَ السُّحْتِ تهضمُ ما تهضمُ
(1) المدقعين: الأشد فقراً؛ المهطع: الذليل؛ العتاة: الطواغيت، السحت: المال الحرام.
ثم يلملم هتاف الجماهير وغضبهم، ليزقهم بشحنات ساخنة يفور بها السخط الدموي والاعتراض الصارخ:
أَتَعَلْمُ أن جـِراحَ الشَّـهيـد تـَظـَلُّ عن الثأر ِ تـَسْـتـَـفِهـمُ
أَتَعَلْمُ أن جـِراحَ الشهيـد منَ الجوعِ تـَهضِمُ ما تـَلهمُ
تـَمُصُّ دما ً ثـمَّ تَبْغِي دما ً وتبقى تُـلِـحُّ وتـَسْـتـَـطعِـم
الى أن يصل الى الأعلان عن طلب الثأر، وأنه لا محالة فالقتلة سوف يحاسبون، وأن دماء الشهداء لا تذهب هدراً: (ديوان الجواهري، ج3، ص 263)
أخي جعفراً لا أقولُ الخَيالْ وذو الثأرِ يَقْظانُ لا يَحلُم
ولكنْ بما أُلهِمَ الصابرونْ وقد يقرأُُ الغيبَ مُستَلهِمُ
أرَى أُفُـقاً بنجيــعِ الدمـــا............................ءِ َنوّرَ وَ اخْتَفَتِ الأَنجُمُ
صُرِعْتَ فحامَتْ عليكَ القلوبْ وَخَفَّ لكَ الملأُ الأعظمُ
أخي جعفراً بعهــودِ الإخا...........................ءِخالِصَةً بيننا أُقْسِمُ
وبالدمعِ بعدكَ لاينثني وبالحُزْنِ بَعْدكَ لايُهْزَمُ
اما حادثة المسبح ومناسبة تكريم هاشم الوتري عميد كلية الطب، فحدث ولا حرج، حيث أن الأوضاع العامة في العراق كانت أوضاع اعتقالات، تعسف، مداهمات والبلد في فوضى عارمة يُدعَى الجواهري الى الحضور في هذه المناسبة، أي مناسبة قبول الدكتور هاشم الوتري في الجمعية الطبية البريطانية، ولمواقف الدكتور الوطنية، ولرغبة جامحة للجواهري بتحدي الطغاة يقبل الدعوة، الحضور رسمي وشعبي، وزراء، وزراء سابقين، ممثل البلاط الملكي وكان ذلك في العام 1949م، لم تمضي الا شهور على قنبلة الجواهري في أخي جعفر، ويصعد الجواهري والعيون تترقب البلبل العنيف:
مجَّدْتُ فيكَ مَشاعِراً ومَواهبا وقضيْتُ فَرضاً للنوابغِ واجِبا
بالمُبدعينَ الخالقينَ تنوَّرَتْ شتَّى عوالمَ كُنَّ قبلُ خرائبا
شرفاً « عميدَ الدارِ» عليا رُتبةٍ بُوِّئْتَها في الخالدين مراتبا
ولأنتَ صُنْتَ الدارَ يومَ أباحها باغٍ يُنازلُ في الكريهةِ طالبا(1)
(1) بوأ: نزل فيه واقام او دخل فيه، بوئتها: دخلت في اعلى مقام؛ أباحها: هتك حرمتها، باغ: طاغ
ثم يميل بسيفه نحو كبار القوم الجالسين في الصفوف الأمامية ليقول:
إيهٍ عميدَ الدارِ كلُّ لئيمةٍ لابُدَّ - واجدةٌ لئيماً صاحبا
ولقد رأى المستعمِرونَ فرائساً منَّا ، وألفَوْا كلبَ صَيْدٍ سائبا(1)
أعَرَفتَ مملكةً يُباحُ " شهيدُها " للخائنينَ الخادمينَ أجانبا
خُبِّرْتُ أنَّكَ لستَ تبرحُ سائلاً عنّي ، تُناشدُ ذاهباً ، أو آيِبا
وتقولُ كيفَ يَظَلُّ نجم ساطعٌ ملءُ العيونِ ، عن المحافل غائبا
أُنبئكَ عن شرِّ الطّغامِ مَفاجراً ومَفاخراً ، ومساعياً ومكاسبا
(1) سائب: مشرد، لاصاحب له.
هنا تصل القلوب الى الحناجر، الكل في صمت قاتل، هدوء قبل العاصفة، عيون المتصدرين بدأت تقدح شراراً، وتملأ غيضاً وتحدق هنا وهناك، لعل الجواهري يهدأ أو على الأقل لا يكمل القصيدة، أما الجواهري العنيد، السياسي الشاعر هذه هي فرصته الذهبية، وساحته القتالية. اذن ليغتنم الفرصة وليحصل ما يحصل، فهو يدري بعاقبه الأمور، أنه السجن طبعاً، ألم يجهز عائلته، ألم يرسلهم الى النجف بعيداً، فليقو كلمته، فليجهز عليهم جميعاً: (من قصيدة هاشم الوتري، ديوان الجواهري، ج 3، ص 391)
ماذا يضرّ الجوعُ ؟ مجدٌ شامخٌ أني أظلّ مع الرعية ساغِبا
أعلِمتَ هاشمُ أيُّ وَقْدٍ جاحمٍ هذا الأديمُ تَراهُ نِضواً شاحِبا ؟
أنا ذا أمامَكَ ماثلاً متَجبِّراً أطأ الطُغاة بِشَسْعِ نَعْلِيَ عازبا (1)
آليتُ أقْتَحمَ الطُغاةَ مُصَرِّحاً إذ لم أُعَوَّدْ أنْ أكونَ الرّائبا
(1) شسع النعل: خيط النعل.
وفي ذكرى تأبين الزعيم الوطني اللبناني عبد الحميد كرامي، دُعي الجواهري عام 1951م للمشاركة في هذا الحفل التأبيني وأنشد قصيدته المشهورة التي فيها:
باقٍ، وأعمارُ الطغاةِ قصارٌ مِنْ سِفْرِ مجدِكَ عاطرٌ وموارٌ
متجاوبُ الأصداءِ نَفْحُ عبيرِهِ لطفٌ، ونفحُ شذاتِهِ أعصارٌ
ثم يخاطب لبنان ويناجيه و يدخل الموضوع الذي يريده وان سيكون في ذلك طرده وابعاده عن لبنان، فهو لابد له من القاء مايريد وما يقصد وان كان ضيفاً، وان كان في لبنان فلبنان عنده هو العراق، لا اختلاف في أمر السياسة والظالمين:
لبنانُ نجوى مرةٌ وسرارُ إنا بحكمِ بلائِنا سَمَّارُ (1)
ماذا يُرادُ بنا وأين يُسارُ واللَّيْلُ داجٍ والطَّرِيقُ عثارُ
أ عُقابَ لبنانٍ تُدَنس وَكْرُهُ للأجنبي قواعدٌ ومطارُ؟
(1) سمار: جمع سامر أي الذي يتحدث مع جليسه ليلا ً ويقال لا افعله ابداً ما تسمر سامر «المعجم الوسيط».
وأخيراً يأتي على بيت القصيد، أو الهدف من القصيدة، ليلقي نفسه بعد الالقاء مطروداً وممنوعاً من دخول لبنان، لا يضره ذلك، فلن يخاف من هذا: (الجواهري في العيون ، ص 322؛ من قصيدة عبد الحميد كرامي)
تَنْهَى وتأمرُ في البلادِ عِصَابَةٌ يَنْهَى ويأمُرُ فوقَها استعمارُ
َخويتْ خزائنُها لما عَصَفَتْ بها الشَّهَواتُ، والأسباطُ والاصهارُ
وتَيَقَّنُوا أنْ لا وجار يَقِيهِمُ حتفاً وللضَّبِّ الضَّليلِ وِجَارُ
فَهُمْ وفَرْطُ الحِقْدِ لاثَ دماءَهُم كلبٌ بهم لدمائِنا وسعارُ
خلاصة القول أن هناك عوامل كثيرة، منها تتعلق بالشخصية الفذة للجواهري ومنها تتعلق بالظروف السياسية الدولية على المنطقة العربية، قد أثرت على قريحته الشعرية، وأصبح الشعر السياسي سواءً كان مدحاً، أو رثاءً، أو حدثاً، أو مناسبة الطابع الغالب على مجمل شعره، فهو شاعر الوطن والأمة الانسانية.