قصيدة التتويج ، هي القصيدة التي ألقاها الشاعر محمد مهدي الجواهري في حفل أقيم في " قصر الرحاب " غربي بغداد بمناسبة تتويج فيصل الثاني رسمياً ملكاً على العراق بعد بلوغه سن الرشد ، وقد كنت أنا بالذات سبباً في نشر هذه القصيدة .
فعندما كان الجواهري يلقي قصيدته وراديو بغداد يذيعها مباشرة ، كنت في منزلي ببغداد أكتب أبيات القصيدة ، بيتاً بعد بيت ، لأنه لم يكن لديّ آنذاك جهاز تسجيل .
وفي اليوم التالي ـ السبت ، الثاني من شهر مايو 1953 ـ دفعت بالقصيدة إلى المطبعة لنشرها في جريدة " لواء الجهاد " ، التي كنت سكرتير تحريرها ، وكان صاحبها المحامي فائق توفيق .
وقبل أن يتم تنضيد القصيدة ، إتصلت هاتفياً بالشاعر الجواهري لأبلغه بالأمر لعله لا يريد نشر القصيدة أصلاً أو لعله يريد أن يدخل عليها ـ كعادته ـ بعض التعديلات والتصحيحات ، فقال لي أرسل إليّ القصيدة ، وسأعيدها إليك فيما بعد مع ولدي فرات .
وفعلاً تم ذلك ، وأعاد الجواهري إليّ مسودة القصيدة بعد أن أجرى عليها بعض التعديلات والتصحيحات ، ونشرت القصيدة في صباح اليوم التالي في جريدة " لواء الجهاد " فقط ، لأن أيـّاً من صحف بغداد الصباحية الأخرى لم تنشر هذه القصيدة ، وأذكر هنا بعض أبيات هذه القصيدة :
تِهْ يا ربيعُ بزهرِك العطرِ النّدي

 
 
وبضوئك الزاهي ربيع المولدِ

 
باهِ السما ونجومَها بمشعشع

 
 
عريانَ من نجم الرّبى المتوقَّدِ

 
وإذا رمتك بفرقد فتحدّها

 
 
من طلعة الملك الأغرّ بفرقدِ

 
يا نبتةَ الوادي ونغمةَ عطره

 
 
يا نبعه الثجّاج في اليوم الصدي

 
يا خطوةَ الأمس المعاود طيفه

 
 
يا صفوة الأملِ المرجّى في غدِ

 
أشرقْ على الجيل الجديد وجدّد

 
 
وتوّل عرشَ الرافدين وأصعدِ

 
وقُدِ الجموعَ إلى الخلاص تفز به

 
 
وبهم وخلّدْ أمةَ وتخلَّدِ

 
يا أيها الملك الأغرُّ تحيةَ

 
 
من شاعر باللطف منك مُؤَيّدِ

 
أنا غرسُكُم أعلى أبوك محلّتي

 
 
نبلاً وشرّفَ فضلُ جدّك مقعدي

 
هذه هي أهم أبيات " قصيدة التتويج " التي أبى الجواهري أن ينشرها في أيّ من دواوينه ، فما الذي جاء فيها ليحمل شاعراً عملاقاً عظيماً كالجواهري على الإنقلاب عليها ؟ لقد سمعنا أن كل شاعر، حتى إذا لم يكن بمنزلة الجواهري ، يعتبر قصائده فلذات من كبده ولم نسمع أن شاعراً ما يعلن على رؤوس الاشهاد تنصله مما جاء في قصيدته ، وينوح سنين عديدة ، بل عقوداً عديدة من السنين على ما ألحقته به هذه القصيدة .
لو كان الجواهري شاعراً ملتزماً بمبدأ عدم التعامل مع العائلة المالكة في العراق ، لكان الأمر مفهوماً، لكنه لم يكن كذلك فقد مدح فيصل الأول ، ومدح الأمير عبد الإله ومدح نوري السعيد ، كما مدح الملك حسين ، وقد نشر قصائده في هؤلاء الممدوحين ، فلماذا إذن يتخذ الجواهري هذا الموقف من قصيدته في فيصل الثاني ؟ علم ذلك عند الله وهو أعرفُ العارفين .
وصف الجواهري ، قصيدة التتويج .. بأنها زلة إلا أنه لم يكتف بهذا الوصف ، بل ذهب إلى أكثر من ذلك بكثير ، إذ قال في الجزء الثاني من ذكرياته الصادر في دمشق عام 1991 ، ص 121 ما يلي: (( إنها زلة العمر في مديح فيصل الثاني ، أقولها زلة ، وأكثر من زلّة ، ولا أتراجع أو أحاول أن أخفف من وطأة الموقف ، وأن أستعمل التبرير الذي اعتاده رهط كبير من الكتاب ممن يخطئون ويزلون في المجتمع العربي ذلك لأنني ، بمحض أرادتي هرولت مسرعاً إلى تلك الهاوية ، ولأنني كنت أول العارفين إن هذا الممدوح ربيب مدرسة الاستعمار الإنكليزي بُعَيْد الرضاعة والطفولة بقليل ، وأنه الوريث الوحيد لأبيه .. غباوة ورعونة وقد أضاف إليهما قماره وسكره ، كما كان أمره قبيل عيد تتويجه بقليل وهو يزور كركوك حيث حمل مخموراً من أحضان أرباب شركة النفط الإنكليزية ..
((وما أصعب أيضاً أن يجد المرء ذاته على نقيض قيّمِهِ ومبادئه ، ما أصعب لحظات تأنيب الضمير ، وهو ينقضّ بلا رحمة على نومي وصحوي ، ويعذبني بأشد العذاب الذي لايمكن لي أن أسرد تفاصيله .
((وكي أطرد بعضاً من تلك الكوابيس التي لاحقتني ، ولكي أعطي القاريء درساً في كيفية الاستفادة من أخطاء الآخرين وتجنّبها أقول : المهم أنني نظمت " قصيدة التتويج " الزلّة ، وقررت أن ألقيها رغم تحذير بعض الأصدقاء والذين لم يكن تحذيرهم بمستوى الردع المنشود ... وإنني لا زلت أتساءل لماذا لم أتهرب من إلقاء القصيدة ؟ ولماذا تملّقت من كان يتملّقُني ، ولماذا لم أستطع أن أنهض ـ ضميرياً ـ من تلك الزلّة ، النكسة ، النكبة ، الهاوية .
وفي مكان آخر من ذكرياته وصف هذه القصيدة بأنها المعركة الخاسرة مع الحياة
ويبدو أن الجواهري أدرك أنه لم يعط هذه القصيدة ما تستحقه من أوصاف ، فمن زلّة إلى نكسه ، إلى نكبة إلى هاوية ، فما كان منه إلا وتوجه إلى القاريء ليقول له : سمّها ما شئت .
ثم أشار الجواهري في ذكرياته إلى أن بعض أصدقائه حاولوا منعه من إلقاء القصيدة ونسيانها فيقول ...
((... ومع ذلك ، ولكي أكون أميناً من التاريخ ، فقد كان من بين تلك الحشود البغيضة رجل قريب مني ، صديق لي ، إلا وهو السيد ناظم الزهاوي الذي قال وهو يستمع إليّ ـ لا يا جواهري وكانت تلك " اللا " وأنا في ذروة الصراع مع الذات ، قد أشعلت الفتيل المزروع في جسدي والذي أحاول عبثاً أن أغطيه بحفنة من رماد المغالطة ، وتراب التبرير .. ودارت الأرض بي .. وفقدت المقدرة على الموازنة بين ما هو كائن وبين ما يجب أن يكون
ولقد دارت بي الأرض من جديد ، وأنا أسمع صديقي الزهاوي وهو يردعني لا بمجرد سمعي بل بدمي وضميري ، وهممت بمغادرة هذا الحفل بحجة أنني نسيت القصيدة في بيتي .. ((ولكنني استدركت وقلت أن مجرد خروجي وأنا محط الأبصار الشاخصة ، أمر غريب وحجة النسيان أمرها أغرب ..)) .
لقد بالغ الجواهري كثيراً في كراهته لقصيدته هذه قصيدة التتويج حتى أنه منح الأمير عبد الإله القدرة على التفريق بين كيفية إلقاء هذه القصيدة أو تلك ، وهذا أمر عجيب و الحق يقال كما ألصق بنفسه صفة التلعثم والتعثر عندما ألقى قصيدة التتويج ، ولو وجه أحد مثل هذا الاتهام للجواهري لألقاه في الجحيم ، إذ كيف يتعثر الجواهري ويتلعثم ؟ ومن هو الجواهري بين شعراء العربية بعد أن قرر الشاعر الرصافي أنه رب الشعر وهل يجوز أن ويتلعثم أو يتعثر شاعر فحل هو في الطليعة بل هو في القمة بين شعراء العربية .. كالجواهري ؟ هذا سؤال يستطيع أن يفهمه فقط من فهم اندفاعات الجواهري وانفعالاته الغريبة .
وأوضح الجواهري في ذكرياته أنه بعد إلقاء القصيدة بأيام ، قصد الأمير عبد الإله الرجل الذي كانت القصيدة في حقيقتها من أجله وقد ابتدرني قائلاً :
((إنك يا جواهري كنت على غير المعهود منك في إلقائك ، وطبيعي ، وهو الداهية اللعين ، إنه كان يتذكر ، وعلى سبيل المقارنة ، بين ما كان مني في إلقائي أثناء تكريم ضيفه الرئيس بشارة الخوري، وبين تلعثمي وتعثري في قصيدتي هذه ..))
ظل الجواهري فترة طويلة ينوء ((بأوزار)) قصيدة التتويج إلا أنه ولو كان يشعر بثقلها ، كان يأمل في أن يجد العون والعطف من الآخرين وخاصة الأصدقاء ليغفروا له زلّته هذه .
وقد ضاق ذرعاً بقصيدة نشرها الشاعر المرحوم إبراهيم الخال هجا فيها الجواهري ، وقد نسبت هذه القصيدة في حينه خطاً إلى الشاعر المرحوم محمد صالح بحر العلوم .
وقال الشاعر الخال في مطلع قصيدته :
صَهْ يا رقيع فمن شفيعُك في غدِ

 
 
فلقد خسئتَ وبانَ معدنك الرديّ

 
فاهتز الجواهري لذلك وأطلق ما كان يغلي في ذاته من ألم وندم فنشر قصيدة رد فيها على قصيدة "الخال" قال فيها :
عدا عليّ كما يستكلبُ الذّيبُ

 
 
خلقٌ ببغداد أنماط أعاجيبُ

 
خلقٌ ببغداد ممسوخ يفيض به

 
 
تاريخ بغداد لا عُرْبٌ ولا نوبُ

 
مشت إليّ بعوضات تلدَغني

 
 
وهل يحسُ دبيب النّخْلِ يعسوبُ

 
تسعون كلباً عوى خلفي وفوقهم

 
 
دمي ، فعندهُمُ من فيضهِ كوبُ

 
مِمّن غَذَتْهم قوافيّ التي رضعت

 
 
دمي ، فعندهُمُ من فيضه كوبُ

 
وقبل ألف عوى ألفٌ فما انتقصت

 
 
أبا محسّدَ بالشتم والأعاريبُ

 
وأبو محسّد هو المتنبي .
غير أن الشاعر الخال ، لم يسكت على قصيدة الجواهري ، فنشر قصيدة أخرى في هجائه قال فيها:
أغراك بالكأس قول فيك مكذوبُ

 
 
فاشرب وحقك إن الحر مرهوبُ

 
((عدا عليّ كما يستكلب الذيبُ))

 
 
مصدّع الورك في بغداد مكلوبُ

 
مصدّع الركن مقتول بقولته

 
 
مشيّعٌ بقبيح القول مسبوبُ

 
والحق أن الجواهري لم يسكت على نفسه ، التي أمرته بالسوء ، كما رأى ، بل نفث همومه في قصائد عدة بعد فترة وجيزة من نشر قصيدة التتويج ففي عام 1954 ، نشر قصيدة كفارة وندم يكفر فيها عن جريمة هذه القصيدة ويعلن عن ندمه ...
وجاء في هذه القصيدة الأبيات التالية :
حنانيكِ نفسي لا يَضِقْ منك جانب

 
 
إذا ضاق من رحب النفوس جنابُ

 
ولا يتهضّمْكِ انخفاض فطالما

 
 
تخفّض نسرٌ صاعدٌ وعُقابُ

 
وشامخة الأدواح يلوي عنانها

 
 
مع الريح والمحض الصريح يُرابُ

 
وما لك من عتبٍ على الدهر إنما

 
 
عليك لما هوّنت منه عتابُ

 
تَقحّمتِهِ حتى كأنك فوقه

 
 
وإنك إذ طمّ العُباب عبابُ

 
وفي نفس العام نشر الجواهري قصيدة أخرى لنفس الغرض بعنوان خَبَتْ للشعر أنفاس قال فيها :
خبتْ للشعر أنفاسُ

 
 
أم اشتطّ بك الياسُ ؟

 
أم الحيُّ وقد أغْفيتَ ،

 
 
إبلاسٌ وإخراسُ ؟

 
ويا ربّ المقاييس

 
 
تُرى أعياك مقياسُ ؟

 
أكفراً بالقياساتِ

 
 
وما قِيسَ وما قاسوا

 
أم الخير شكا الندوة

 
 
حيث الشرُّ أكداسُ

 
أم الثروة للقبح

 
 
وعند الحسن إفلاسُ

 
أم العبدُ على الأحرار

 
 
قوّامُ ونخّاسُ

 
أم الفكر بأظلاف

 
 
الوحوش الغُبر ينداسُ

 
أم الموت غشا الحيّ

 
 
فما في الدار أحلاسُ

 
سلاماً أيها الناسُ

 
 
فإن العرقَ دسّاسُ

 
وأيماناً ولن تنهارَ

 
 
للإيمان أساسُ

 
منيماً .. لا   الاسى .. لا    الشكُّ .. لا    الحرمانُ .. لا     الياسُ
ولابد من القول أن الجواهري لم يكتف بل كان يشير ، ولو من طرف خفي إلى "كبوته" هذه حتى في القصائد التي نظمها بعد قصيدة التتويج بسنين .
ويقول بعض المسؤولين سابقاً في وزارة الإعلام العراقية أنهم استخدموا في محاولات سحبه للاشتراك في التتويج أساليب النخوة والاستفزاز وتحريك مشاعر التحدي ، فقد قيل له أن شاعر العراق يجب ألا يغيب عن مناسبة عراقية أمام شعراء عرب بارزين مثل بدوي الجبل ، أي أنهم استخدموا معه (النخوة الشعرية) والجواهري كتب عدداً من القصائد الجميلة بطريقة النخوة)) .
قال العلوي في كتابه الجواهري شاعر العصر : ((... لقد تحاشيت خلال صلتي الطويلة بالجواهري توجيه سؤال مباشر عن قصيدة التتويج ، لكنه هو الذي لم يحاول أن يتحاشى الإشارة إليها ... أن اسم الملك فيصل الثاني يرتبط في ذهنه بتلك الكبوة وقد قال لي أكثر من مرة (إنني أكره فيصل الثاني لكونه مدللاً..) وقد كرر الجواهري موقفه هذا في حديث مسجل ومطول أجراه مع الدكتور عبد الحسين شعبان .
قصة الملك المدلل :
ومما يثير الاستغراب أن يلجأ الجواهري إلى جرح الملك فيصل الثاني بعد وفاته فيقول أنه يكرهه وأنه مدلّل وأنه ترعرع في لندن .. ألخ
ولا أدري في الحقيقة ما أقول في هذا هل كان الجواهري حقاً يكره فيصل الثاني لأنه مدلل أم لأنه ترعرع في لندن ؟ وماذا في أن يترعرع طفل في لندن إذا كان كبار القوم لم يتورعوا عن الحج إلى لندن ، ولم يتذرعوا بأي حجة لرفض دعوات وجهتها إليهم لندن هذه ؟ والغريب في الأمر أن الجواهري قال ما قال بعد أن أصبحت لندن محج العراقيين فهي تحتضن الآن مئات الألوف من العراقيين الذي هربوا من جحيم صدام وبينهم من كانوا ينعتون لندن بعاصمة الاستعمار البريطاني .
وقصة التدليل هذه أمرها عجيب غريب ، فكل من له أدنى علاقة بالبلاط الملكي كان يعرف أن الأمير عبد الإله كان يعامل ابن اخته فيصل معاملة شرسة مهينة ، معاملة لم يكن أحد يتوقعها من خال تجاه ابن اخته الذي أصبح يتيماً قبل أن يتم الرابعة من عمره ... لقد كان فيصل حقاً أهلاً للعطف والرحمة والدلال ولكن قلب خاله المتحجر منع عنه هذا الدلال الذي رآه الجواهري فقط بام عينيه كما يبدو .
لقد مدح الجواهري الأمير عبد الإله بقصيدة في عام 1948 ، قال فيها :
حضن التاج بنيه فتعالى

 
 
وتعالى حارسُ التاج جلالا

 
وتعالت أمةٌ لم تنحرف

 
 
عن مدى الحق ولا زاغت ضلالا

 
يا حفيظ العهد للوادي ويا

 
 
أمل الوادي فتوّاً واقتبالا

 
وصليب العود يأبى غمزةً

 
 
ورفيع الرأس يأبى أن يطالا

 
هرع الشعب إلى (منقذه)

 
 
ملقياً في الساحة الكبرى الرحالا

 
لم يمنح الجواهري الملك فيصل مثل هذه الأوصاف التي انطوت عليها قصيدته في الأمير عبد الإله فلماذا هذا الإمعان في إذلال الملك الذي لا يمكن أن يكون قد ألحق أي ضرر بالجواهري . فهل مدح الأمير حلال ومدح فيصل حرام ؟
أنا لا أريد أن أتحدث بإسهاب عن هذا الدلال وأترك الأمر لأحد أبناء هاشم وهو الملك حسين ملك الأردن .
فقد نشر الملك حسين في عام 1962 ، كتاباً باللغة الإنكليزية (1) تحدث فيه عن الظروف الصعبة التي تعرض لها في حياته وتناول وضع الملك فيصل ضمن الفصل الخاص بالاتحاد العربي الذي أقيم بين العراق والأردن في 14 شباط 1958 .
ذكر الملك حسين في كتابه هذا أن الأمير عبد الإله ، زار لندن مرة للإطلاع على أحوال فيصل الذي كان يدرس في كلية "هارو" وأن عبد الإله وفيصل زاراه في كلية "ساند هرست" العسكرية ، وإن الثلاثة خرجوا في جولة بسيارة كان يقودها الامير عبد الإله وإلى جانبه أحد المرافقين في حين جلس فيصل والحسين في المقعد الخلفي ... وأضاف أن الملك فيصل رجا خاله أن يقوم بجولة في إحدى مناطق لندن ، غير أن الأمير عبد الإله لم يكلف نفسه عناء الرد على هذا الرجاء .. وأضاف أن هذا الأمر أذهلني تماماً وإن الأمير عبد الإله بدأ يلقي خطاباً في تقريع ابن اخته وتعنيفه أمام مرافقه العسكري ، كما لو كان فيصل ولداً شريراً (هذا هو تعبير الملك حسين) وقال أنه عندما استمر عبد الإله في خطابه هذا انفجرت وقلت له تمهل رجاء ، يؤسفني أن أكون في وضع أجد نفسي فيه شاهداً على هذا الشجار العائلي ، لا سيما في هذا الموقف (إشارة إلى وجود شخص غريب) ، لقد تحملت أكثر مما أطيق ، فأرجو أن تتوقف لأنزل من السيارة ، ونزلت لأدخل سيارتي التي كانت تسير وراء سيارة الأمير .
وأوضح الملك حسين في كتابه أن تصرفه هذا كان نتيجة تفاعل حوادث مماثلة تراكمت آثارها في نفسه خلال فترة طويلة ((وأنا أرى فيه ابن عمي الذي أحبه ونفسه تتحطم.))
وأشار الملك حسين في نفس الفصل إلى "المدلل" على حد تعبير الجواهري ، كان يحصل على المواد القديمة والعتيقة أمعاناً في تذليله وقال :
((زرت بغداد مرة وقمنا فيصل وأنا بزيارة لموقع بناء البلاط الملكي الجديد في جانب الكرخ من بغداد ، وكنت مع الملك في سيارته التي كانت شبه بالية بينما الأمير يمتطي مع مرافقيه سيارة ضخمة فخمة من طراز رواز رويس ، فسألت الملك فيصل ألا يجدر بك أن تبدل سيارتك ؟ فلم يرد بل اكتفى بالصمت . وقد اتصلت في نفس اليوم بعمان لترتيب الأمر وفعلاً وصلت إلى بغداد في اليوم الثاني سيارة جديدة قدمتها هدية إلى ابن عمي فيصل .
وأكد الملك حسين في كتابه أنه شعر بأن دمه يغلي في عروقه بسبب هذه المعاملة المذلة التي يلقاها فيصل الثاني من خاله .
ويقول الملك حسين إن مأساة الملك فيصل تتركز في حقيقة واحدة وهي أنه لم يسمح له أبداً بتحقيق أي من آماله ، كما لم يسمح له بتصريف مسؤولياته الملكية كما يجب .. أن الملك فيصل كان في الحقيقة أسير الوضع بسبب ما أشبعه خاله من ذل وهوان غير أن اللوم لا يوجه كلياً إلى الساسة العراقيين القدماء ، لأن اللوم في الحقيقة على العلاقة القائمة بينه وبين خاله .
وقال الملك حسين : ((لقد نشأنا على أساس أن يحترم صغيرنا الكبير ، ولكن كانت هناك أوقات لم يكن من السهل عليّ فيها أن أسير على هذا الأساس.))
هذه هي قصة الملك المدلل الذي شبع الهوان والتحقير والأذلال ، وممّن ؟ من خاله الأمير عبد الإله، فأين هذا الواقع مما قاله الجواهري عن التدليل الذي لم يكن في الحقيقة إلا عنوان المهانة والتذليل ، أما لماذا كل هذا ؟ فالرد على هذا السؤال يكمن في شخصية الجواهري وانفعالاته واندفاعاته وشطحاته .
وقد تحدث عن هذه الشخصية السيد سليم طه التكريتي ، في كتاب نشره عام 1989 فقال : ((أن الجواهري كان قطعة من إحساس متوقد ، وثورة على كل شيء ، على الحكم ، على المجتمع وعلى نفسه هو ، ولا يمكن أن يرضيه شيء ، ولا أن يشبعه مال ، ولا أن يهدأه جاه . ولم يعرف عنه طيلة حياته أنه استقرّ على وتيرة واحدة ، أو رضي بالنعمة المتوفرة ، أو ألف العيش الرتيب لفترة ما . فهو جذوة من أعصاب متوترة ، وفكر جوّاب ، وروح هائم وراء المكانة الأعلى ، وقلق متواصل ، وانتهازيه دائمة .))
وقد اقتبس أقوال التكريتي هذه الدكتور سليمان جبران ونشرها في كتابه صل الفلا ـ دراسة في سيرة الجواهري وشعره ، ص 62 ، وقد نشر هذا الكتاب في حيفا عام 1994 .
وأقول هنا أن السيد سليم التكريتي كاتب ومترجم إضافة إلى كونه صحافياً عمل في الكثير من الصحف التي أصدرها الجواهري ، ولذلك فإن رأيه في الجواهري له وزن وقيمة .
وفي ص 485 من الجزء الأول من ذكرياتي أشار الجواهري إلى السيد التكريتي فوصفه بأنه من الأسماء الشاخصة والوجوه البارزة في جريدته (الرأي العام) وسائر الصحف الأخرى التي كان يصدرها عند تعطيل (الرأي العام) ، ومن الأسماء التي ذكرها بهذا الصدد إضافة إلى التكريتي ، بدر شاكر السياب، إلياس وزير ، والشهيد حسين مروّة ، وعبد القادر البراك ، فهؤلاء هم الذين كانوا الصفوة المختارة في كل الصحف التي أصدرتها)) .
والحقيقة أن ذكر اسم إلياس وزير الذي سبق اسم ((الشهيد مروة)) قد هزني هزاً ، فالسيد إلياس الوزير لم يعمل في الصحافة العراقية بانتظام أبداً لأنه كان موظفاً دائماً في دائرة العلاقات العامة التابعة للسفارة البريطانية ببغداد ، وكان يزور الصحف وليس (الرأي العام) فقط انسجاماً مع وظيفته هذه وعمله بعض الوقت في محطة إذاعة الشرق الأدنى ! فكيف بالله يذكر الجواهري اسم هذا الشخص وينسى اسم السيد سليم البصون الذي رافقه في معظم الصحف التي أصدرها ؟ كان الجواهري قد خص السيد البصون بمعلومات قيمة ثمينة لم يتمكن البصون من نشرها بعد أن أقعده المرض منذ عام 1981 وحتى شهر آب  من عام 1995 فرحل إلى رحمة الله ، ولعل عائلته الكريمة تتمكن من نشر هذه المعلومات الثمينة لتضع اسم المرحوم ((البصون)) في مكانه اللائق في حياة الجواهري .
واسم آخر فات الجواهري أن يذكره مع هذه الأسماء ، ذلك هو اسم المرحوم عبد الرزاق الناصري صاحب جريدة الأنباء الأسبوعية ، فقد كان السيد الناصري صديقاً للجواهري وتولى إصدار صحف الجواهري كلما عنّ للجواهري أن يغادر الوطن زائراً أو مصطافاً .
وعودة إلى الأمير عبد الإله بعد خمسين عاما :
أشرت في بداية هذا المقال إلى أن الجواهري الغاضب على قصة التتويج قال أنّ الأمير عبد الإله تحدث عن طريقة إلقائه قصيدة التتويج متذكراً على سبيل المثال ما كان منه عند إلقائه قصيدة أثناء تكريم الرئيس بشارة الخوري ضيف الأمير عبد الإله .
ففي 2 كانون الأول عام 1947 زار الرئيس اللبناني بشارة الخوري بغداد ضيفاً على الأمير والوصي على العرش عبد الإله فأقيم في بهو أمانة العاصمة حفل لتكريم الضيف الخوري فألقى الجواهري قصيدة تقع في 99 بيتاً أشبع فيها الخوري وعبد الإله ما شاء له من مديح ، دون أن يشعر بعد ذلك بسنين بأي هم أو غم أو ندم ، كما فعل مع قصيدة التتويج ، وقد كرس الجواهري أربعة وعشرين من أبيات هذه القصيدة لمدح الأمير عبد الإله ومنها :
يرجو العراق بظل راية فيصل

 
 
أن يرتقي بكم الذُّرى ويطولا

 
لا شك أن وديعة مرموقة

 
 
عزّ الكفيل لها فكنت كفيلا

 
قدت السفينة حين شقّ مقادها

 
 
وتطلبت ربانها المسؤولا

 
أعطتك دفّتها فلم ترجع بها

 
 
خوف الرياح ولا اندفعت عجولا

 
ومنحتها والعاصفات تؤودها

 
 
متناً أزلّ وساعداً مفتولا

 
أعطيت ما لم يعط قبلك مثله

 
 
شعباً على عرفانكم مجبولا

 
إن العراق يجلّ بيعة هاشم

 
 
من عهد جدّك بالقرون الأولى

 
وفي الثاني من كانون الأول 1992 أي بعد مرور خمسين عاماً على إلقاء الجواهري قصيدته ((ناغيت لبناناً)) في تكريم الرئيس بشارة الخوري ، أقامت وزارة الثقافة الأردنية حفلاً في عمان لتوزيع جوائز الدولة التقديرية والتشجيعية ، ألقى خلالها الجواهري قصيدة بنفس الوزن والقافية بين يدي الملك حسين تقع في أربعة وثلاثين بيتاً ضمنها عشرة أبيات قصيدته ((ناغيت لبناناً)) مع تغييرات طفيفة جداً في بعض الأبيات .
وفيما يلي الأبيات العشرة التي وردت في القصيدتين كما ألقاها الجواهري في حفل وزارة الثقافة الأردنية :
يا ابن الذين تنزّلت ببيوتهم

 
 
سور الكتاب ، ورتّلت ترتيلا

 
الحاملين من الأمانة ثقلها

 
 
لا مُصعرين ، ولا أصاغرَ ميلا

 
والطامسين من الجهالة غيهباً

 
 
والمطلعين من النهى قنديلا

 
والجاعلين بيوتهم وقبورهم

 
 
للسائلين عن الكرام دليلا

 
شدّت عروقك من كرائم هاشم

 
 
بيض نُمين ، خديجة وبتولا

 
وحنت عليك من الجدود ذؤابة

 
 
رعت الحسين وجعفراً وعقيلا

 
هذي قبور بني أبيك ودورهم

 
 
يملأن عرضاً في الحجاز وطولا

 
ما كان حج الشافعين إليهم

 
 
في المشرقين طفالة وفضولا

 
حب الألى سكنوا الديار يشفّهم

 
 
فيعاودون طلولها تقبيلا

 
يا ابن النبي وللملوك رسالة

 
 
من حقها بالعدل كان رسولا

 
والحقيقة أن موقف الجواهري من الأمير عبد الإله والملك فيصل الثاني في قصيدتيه ته يا ربيع وناغيت لبناناً ، تصور بجلاء منقطع النظير التناقضات الكثيرة التي لوّنت حياة هذا الشاعر العظيم .
تكهن أن يموت غريبا :
إنتقل الجواهري إلى جوار ربه في دمشق في السابع والعشرين من شهر تموز من عام 1997 ، وكان قبل أكثر من سبعين عاماً قد تكهن بأن يموت خارج العراق ، وذلك في قصيدته الشاعر التي نشرتها له عام 1924 مجلة العرب للمرحوم اللغوي الأب انستاس ماري الكرملي ، قال فيها :
حمل الناس سكوناً

 
 
وجلالاً في الحنايا

 
شاعراً أدركه الموت

 
 
غريباً في الزوايا

 
سبر الأفق بعين

 
 
أدركت منه الخبايا

 
أجل ! إنتقل الجواهري إلى جوار ربه خارج بغداد التي أحبها وغناها ، ولذلك فإنه لم يشيع التشييع الذي كان يتوقعه ليسير في بغداد عشرات الألوف في موكب حزين مهيب قبل أن يوارى جثمان الجواهري الثرى ، غير أن مواكب عديدة سارت في مختلف أنحاء العالم من أستراليا في الشرق وحتى أمريكا في الغرب مروراً بآسيا وأوربا وأفريقيا لإحياء ذكرى الجواهري ، وكلها تضم عشرات الألوف من العراقيين الذين فروا من العراق هرباً من بطش صدام حسين ، ولا بد من الإشارة هنا إلى أن صدام حسين كان قد أسقط الجنسية العراقية عن العراقي الأصيل العريق محمد مهدي الجواهري ، فتأمّل!!
هل من خلف للجواهري ؟
وبعد كل هذا الحديث الذي انحصر أكثره في سيرة الجواهري ، لا بد من الحديث قليلاً عن شاعريته الهادرة النادرة ، ولا بد من طرح هذا السؤال ، هل من خلف للجواهري ؟
الحقيقة هي أنه لا يمكن الرد على هذا السؤال في هذه الحقبة من الزمن ، لا سيما وأن الجواهري انتقل إلى جوار ربه بعد أن خلف للعربية والإنسانية دواوين شتى تضم ما يقارب من خمسة وعشرين ألف بيت ، الأمر الذي لم يتيسر لأي من شعراء العربية في مختلف العصور ، فهو فذ في هذه الناحية ، أضافة إلى أنه أبرز الشعراء طراً وأغزرهم مادة ، وأكثرهم أغراضاً ، وأنبتُهم قافية ، وأطولُهم نفساً ، وأعمقهم أدباً ، وأشرقُهم بياناً وألصقُهم بالتراث ، وهذه أمور لا تتوفر في أي شاعر معاصر من شعراء العربية ، لا سيما وأن معظم الشعراء المعاصرين يركضون وراء الخفيف السهل من الإنتاج الشعري .
كنا مرة في مقهى حسن عجمي في محلة الحيدر خانة من بغداد ، ودار الحديث مع الجواهري ، فيما دار ، عن الخلف ، فما كان من الجواهري إلا ورد رداً قاطعاً فاصلاً بقوله ((لو كان لبان)) وفعلاً مر على هذه المقولة الجواهرية أكثر من أربعين عاماً ، ولم يبرز هذا الخلف ، وسيمر أكثر من أربعين عاماً وربما أكثر من مئة عام قبل أن يبرز شاعر قد يقترب من مكانة الجواهري الشعرية ، فالعمالقة من أمثال الجواهري لا يظهرون كل قرن .
 
عندما دخل الجواهري السجن
بسبب الكاشير والطاريف عند يهود العراق
بعد مرور بضعة أشهر على وقوع حركة الإنقلاب التي قام بها اللواء الركن بكر صدقي في 29/10/1936 ، دخل الشاعر محمد مهدي الجواهري السجن لأول مرة في حياته ، لا بسبب دعوة وطنية أو موقف وطني وإنما بسبب ((الكاشير والطاريف)) ، على الرغم من أنه كان من المناصرين لهذا الإنقلاب .