الخلاصة:
   تتناول هذه الدراسة مظاهر البنية الموسيقيّة التي وافق فيها الجواهري المتنبّيّ المتمثّلة بالموسيقى الخارجيّة ، ومنها : الأوزان والقوافي ، وعدد القوافي المشتركة في القصائد التي اتّفق وزنها ورويّها في ديواني الشاعرين ، وما اتّفق للشاعرين من تعلّق ألفاظ بلفظ القافية في تلك القصائد ، ومظاهر الموسيقى الداخليّة ومنها : التكرار الحرفي في مطالع القصائد التي اتفق وزنها وقافيتها ، والتكرار اللفظيّ في تلك القصائد بأنماطه ومنها : ردّ الأعجاز على الصدور ، والجناس ، وتكرار بعض الأبنية الصرفيّة والنحويّة ، والتقسيم ، والتضادّ بنوعيه : الطباق والمقابلة ، والتضمين .
      يقرن كثيرون من دارسي الشعر محمّد مهديّ الجواهريّ بالمتنبّيّ لما في شعره من قدرة على التأثير ، وما يحمله هذا الشعر من سمات الجدّة ،  يقول د. عبد الكريم الدجيليّ : " إنّ شعر الجواهريّ فيه جدّة كلّما تكرّر وأعيد ، فحين أقرأ أيّ قصيدة من قصائده يخيّل إليّ أنّني أقرأ شعراً جديداً لم أعرفه من قبل مع العلم أنّ كل ما في القصيدة من آراء وفكر ، واتجاهات ومن قوّة أدبيّة خارقة في البناء والأسلوب ، ومن جلال فنّيّ هو في غاية الإبداع ، كلّ هذا أعرفه مسبقاً حين أشرع في قراءة قصيدة من قصائده ، ولكن مع هذا كلّه فهو جديد على تفكيري عند تكراره ، فهو شبيه بالمتنبّيّ في هذا الجانب إلى حدّ كبير " (1) ، ونظنّ أنّ تعلّق الجواهريّ بشعر المتنبّيّ هو الذي حمل د. جلال الخيّاط إلى القول : " إنّه شاعر عبّاسيّ أخطأه الزمن .. ووجوده:  في القرن العشرين يمثّل ظاهرةً غريبةً " (2) ،وتابع ذلك د. زاهد محمّد زهدي فقال  " إنّ الجواهريّ شاعر عبّاسيّ وُلد على أبواب القرن العشرين مع اختلاف في النفحة الشعريّة والالتصاق بهموم الناس " (3) ، فقد عاش الجواهريّ المرحلة المبكّرة من حياته وهو مبهور بهالة المتنبّيّ : " كان الشيخ عبد العزيز شقيق الجواهريّ يشرف على تربيته وتثقيفه بعد وفاة والده ، وكان يجبره على حفظ نصوص ... من شعر البارزين ... أمثال المتنبّيّ " (4) ،وهو يقرّ بتأثّره بشعر المتنبّيّ ، يقول : "أوّل تأثّري في دور الصبا كان بالمتنبّيّ .. كان عليّ كلّ يوم أن أحفظ قصيدةً من شعر المتنبّيّ " (5) ومن هنا وجدناه يقرن نفسه بالمتنبّيّ يقول في مذكّراته : " أيضيرني في شيء أن أكون إلى جانب .. المتنبّيّ .. وماذا كان يعوزني من ذلك كلّه لولا أن يجري في عروقي .. الدم العربيّ والعراقيّ والنجفيّ ، ولولا أنّني من مواطن المناذرة والنعامنة" (6)، وبذلك استطاع الجواهريّ أن يختزن الكثير من شعر المتنبّيّ ، فقد عشق المتنبّيّ ورأى فيه معلّمه الأوّل ، وجذره الراسخ في منابت التراث العربيّ .
    ويؤكّد الجواهريّ اعتزازه بشاعريّة المتنبّيّ فيشارك في المهرجان الذي أقيم في دمشق عام 1935 في الذكرى الألفيّة للمتنبّيّ بقصيدة ( الشاعر الجبّار )التي مطلعها :
               وُلد الألمعيُّ فالنجمُ واجمْ         باهتٌ من سطوعِ هذا المزاحِمْ (7)
   ويتمثّل شعر معلّمه : " فنقرأ ونلتمس في ديوانه الأوّل بصمات المتنبّيّ "(Cool ، لكنّ هذا التمثّل إنّما كان في المراحل الأولى من حياة الجواهريّ فقد شهد العقدان الرابع والخامس من القرن العشرين الميلاديّ اكتمال شاعريّة الجواهريّ بعد المتغيّرات في الحياة السياسيّة والفكريّة في العراق ، وإن كان ذلك لم يمنع الشاعر من معاودة النظر في ديوان معلّمه الأوّل المتنبّيّ .
    وربّما كان مزاج الجواهريّ يشبه إلى حدّ كبير مزاج المتنبّيّ ، فقد كان الجواهريّ : " يجلّ كلّ متمرّد خارج على الأوضاع في عصره بمختلف صنوف التمرّد شريطة أن يرافقه عنصر بارز يؤهّله للتقدير والاحترام " (9) ، ولا نعتقد أنّ شاعراً بهذه الصفة مثل المتنبّيّ ، يقول الجواهريّ : " أنا أقرب إلى المتنبّيّ .. عنفاً ومغامرةً ، أنا فرخ المتنبّيّ " (10) ، فقد عاش كلا الشاعرين صراعاً مريراً بين الذات والواقع ، فسيرتهما تؤكّد أنّهما ليسا على توافق مع العالم : " ومن بواعث اعتداد الجواهريّ بالأنا إحساسه بالتفوّق والعظمة ، حتّى أصبحت هذه الحالة ظاهرةً انعكست على حياته وشعره ، وسمةً من سماته الشخصيّة ، تذكّرنا بصنوه المتنبّيّ ، وتغري الباحث أن يعقد موازنةً بينهما " (11)  ، لقد عاش الجواهريّ حالة اندماج مزاجيّ مع المتنبّيّ لما عُرف به الأخير من رفضٍ للظلم والذلّ ومن مقتٍ لطبقة الحاكمين : " لم يكتفِ الجواهريّ بالتماهي  مع المتنبّيّ : شخصه وفكره ومقاساته بل إنّه راح يستمدّ منه تبريراً وتزكيةً لرفضه مجتمعه العراقيّ المعاصر الذي لم يتغيّر كثيراً عمّا تركه عليه المتنبّيّ ، رغم مرور الألف عام التي تفصل بينهما حتّى لكأنّ ديناميكيّة الزمن التي تحرّك العالم تتوقّف أو تعقم عن الفعل في هذا المجتمع الذي لا يتقدّم خطوةً إلا ليتراجع خطوتين " (12) ، يقول الجواهريّ في قصيدته (يا ابن الفراتين) التي نظمها عام 1969 :

          أنا ابنُ كوفتِكَ الحمراءِ لي طنبٌ             بـها وإنْ طـاحَ من أركانِـهِ عمــدُ
          جوارُ  كوخِـكَ لا ماءٌ ولا شجرٌ              ولصـقُ روحِـكَ لا مـالٌ ولا صفــدُ
          فكنْ أبا الطيّبِ الجبّارَ لي مدداً             ولـي بـما صُغْـتَ من جبّارةٍ مــددُ
          يا شاغلَ الدهرِ أجيالاً وأحقـبـةً            ومتعبَ الناسِ من ذمّوا ومن حمدوا
          أبا محسّدٍ دنيا رحْتَ تمخَـضُها             فـما تـلقّـفُ إلا ما نـفـى الـزبُـــدُ
          أشرفْ عليها تجدْها مثلما تُركَتْ           كـأنّـها من رسـوخٍ مـثـقـلٍ أُحُــدُ
          نحن الغريران في دنيا بها صببٌ         في المعطيـاتِ بنا عن مثـلِهِ صُعـُدُ(13)

     وعاد عام 1977 لينظم نونيّته الشهيرة (فتى الفتيان المتنبّي) التي مطلعها:

           تحدّى الموتَ واختزلَ الزمانا                  فتىً لوّى من الزمنِ العِنانا (14)