لا زالت مسألةُ الموسيقى في النص الأدبي تثيرُ قدرا كبيرا من الانتباه والتحدي لدى عدد من المهتمين بالشأن الأدبي والعاملين عليه شعراء وأدباء ونقاداً ، ولعلّ هذه الموضوعة تحديدا ما كانت لتصل إلى هذا المستوى من الاستغراق فيها لولا أنها كانت ولا زالت من أهم ركائز السجال المفتوح حول قبول أو رفض النص الأدبي الحديث في شكل قصيدة النثر وافداً جديداً إلى الشعر العربي .

وقصيدة النثر أو (النسيقة) وهو المنحوت الذي خرجنا به تسمية لها من دراستنا حول هذا اللون من ألوان الفنون الأدبية القولية في تطبيق على نظرية الشاعرية التي تقدمنا بها في دراسة منفصلة، تحاول ومنذ خروجها إلى واقع التجربة ما أمكنها أن تدافع عن فرصتها في البقاء عبر إثبات شرط الموسيقى المطلوب لها حتى يمكن ولوجها إلى عالم الشعر تالياً من باب تحقيق هذا الاستحقاق المسبق.1

ولأنَّ منظري هذا اللون الوليد – رغم مرور نصف قرن على ظهوره تقريبا – اختاروا أن يستجيبوا لهذا الاشتراط والتحدي في محاولة انتزاع اعتراف بهذا النص من خصومهم في الموقع المقابل ، فقد استهلكوا جزءا كبيرا من الوقت الذي كان أجدر بهم أن يصرفوه على تحقيق ما حاولوا قوله نظريا في النص ذاته عمليا بما يمنحهم فرصة الدليل بدلا من الاتكاء على نتائج السجال النظري هذا مع خصومهم .

وكانت النتيجة هو بقاء هذا التطبيق الأدبي رهنا بعواصف الزمن وتبدلاته ومطية لعدد كبير من أنصاف الشعراء ومحتالي الشعر عوضا عن انشغال النقاد بالتحيّز والاندفاع بين هؤلاء وهؤلاء فيما التجربة تلقي بأطنان من النصوص التي لا تشفع لهذه التجربة بل وتدينها من واقع التطبيق ، ومثل هذا الوضع في واقع الأمر كان فيه فرصة نادرة لتوفّر عناصر إدانة لهذه التجربة بما يفضي إلى خسارة الشعر ذاته في كل الأحوال .

لقد خسر الشعر العربي المتلقي العربي كما هو ملموس وبشكل لافت حتى الساعة، وانفضّ عنه جزء كبير من جمهوره الذي كان يرى فيه راحة وسكنا لروحه ونفسه ، وكانت هذه النتيجة إلى حد كبير ضمن نتائج هذا السجال وهذه المرانات النظرية وما تمخّضَ عنها من انتكاس في مسيرة الشعر العربي يتحمل مسؤوليته كلا المعسكرين معا بما أتاحاه من فرص لحدوث ذلك جراء هذه المعارك المستجلبة.

إذن فموضوعة الموسيقى أثارت الزوابع هذه وعملت على تأجيجها دوما وبالتحديد مسألة الموسيقى الداخلية في النص وهي التي دفع بها منظرو النسيقة واعترض عليها منظرو العمود والسطر الشعري ، ولعل هذا ما كان حافزا للنظر في مسألة الموسيقى في النص الأدبي محاولة للوقوف على آراء هؤلاء في هذه المسألة ورغبة في استجلاء حقيقة الأمر بين هذه المواقف والرؤى.

إن التعريف الأكاديمي الحديث للموسيقى يلقي بظلال أولية حول المسألة فهو يقول بأن الموسيقى هي (فن تآلف الأصوات الموسيقية المنسجمة لتعبِّرَ عما يجول بالنفس ) ، وقد أحسن إذ أضاف البعض بأنها لا تكتفي بالتعبير بل هي قادرة أيضا على تخليق مواقف نفسية أيضا مستنتجا ذلك من رسالة الكندي " رسالة في خبر تأليف الألحان "وهي الرسالة التي تناولت باستفاضة واسعة الموسيقى وإيقاعاتها وعلاقاتها بالشعر والأوزان الشعرية .2

إنّ أهم ما يلفت الانتباه في هذا التعريف السابق هو ركن التآلف وهو أساس تكوين الطاقة الفاعلة التي نسميها الموسيقى تلك القادرة على التعبير من جهة والتحفيز من جهة أخرى ، وهذا التآلف بين الأصوات الموسيقية في عنصر الزمن الذي يحتاجه هو عنصر الارتكاز الرئيس ، ونعلم قطعا أن الأصوات ذات أنواع وسواء أكان ذلك الصوت الأحادي أم تراكيبه التي تشكّل التعدد الصوتي أو أكثرها هرمية وهي الوزن فهي جميعا تحتاج إلى تحقيق شرط التآلف هذا .

إن هذا التآلف قائم لا شك في عنصري الاستقبال وهي الذات نفسها وعنصر الإرسال وهو الزمن الذي تنبعث فيه هذه الطاقة ويحمل فترات الانقطاع بينها جزءا من العملية الموسيقية ، "فالموسيقى نشاط زمني " 3 ، وتلعب بذلك الذات الإنسانية الدور الفعّال في تحقيق موسيقية الموسيقى بعد أن تكون قد حققت شرط تآلفها الناتج عن ضبطها وهو الأمر الذي ينفي فلسفيا عناصر الفوضى والصدفة والقطيعة بل يؤكّد عكس ذلك تماما، والأساس الفلسفي للموسيقى هو أساس منضبط متكامل ومتآلف ومتفاعل.

ونعلم قطعا أن تقنيات تحقيق هذا العنصر التآلفي تأخذ في عين الاعتبار خصوصية المقابلة والثنائية والمرواحة بينها فهي ذات المعزوفة التي تقوم بها كل خلية حيّة في نشاطها الدقيق وأعني بها حركة الاليكترونات في مدارات الطاقة من خروج وانتقال وعودة ، والقانون العام لها أنها ترتقي حين ارتفاع طاقتها لتعود بعد أن تنخفض طاقتها إلى موضعها الأول في مسار دقيق متآلف لا يعرف اضطرابا حتى وهو يوصف بحالة الحركة الدائبة المستمرة والمعقّدة إلى حد كبير.

لقد رأى بعض الباحثين في مجال الموسيقى وتطبيقها على حياة البشر منذ المرحلة الجنينية أن يقسم هذه إلى مراحل بعينها بحسب هذه المراحل ونوعية التآلف المتحقق فيها ، فقال بالموسيقى الحسية للجنين والموسيقى الحركية للوليد في أولى مراحله العمرية ثم موسيقى الصوت في مرحلة تالية فموسيقى اللون وصولا إلى موسيقى الكلمة 4 ، ولعل اللافت في هذه المراحل جميعا هو سهولة إدراك النابض العام في تحقيقها عبر تتبع عنصر التآلف هذا ومطابقته على الواقع سواء أكان التآلف حركيا أم صوتيا أم لونيا يعتمد على عنصر الحركة فالصوت فاللون وهكذا.

و بوصولنا إلى موسيقى الكلمة فإننا في الواقع نشرع في التعامل مع موسيقى النص كنتيجة لا بد منها وهو الأمر الذي يجعلنا إزاء التعريفات التي أطلقت على هذه الموسيقى بإحالاتها المتعددة ، ويتفق الجميع بلا شك على أن الموسيقى الخارجية في النص الشعري أو الأدبي عموما تتشكّل من عملية تحقيق التآلف عبر النظم بين عناصر تكوين الصوت الموسيقي ومادتها الأساس هي الكلمة واللغة ، ولعل الموسيقى الخارجية أو الظاهرة كما يحب أن يدعوها البعض لا تحتاج إلى كبير عناء في التأكد من تحققها في النص من عدمه .

وقفنا على تسمية لهذه الموسيقى أيضا بالموسيقى التركيبية كما عند الباحث السعيد الورقي في كتابه "لغة الشعر العربي الحديث" 5 ، ورأينا أن من آثر تسميتها بالظاهرة قد أبقى في ذهنه تسمية مقابلة لأخرى باطنة ، وكذلك من اختار لها تسمية الخارجية فقد أزمع أن يستخدم تسمية الداخلية للأخرى المقابلة وأما اختيار السعيد الورقي فهي أكثر حيادية وأقرب للتحديد فهي حقا موسيقى التركيب ولكن هذه العملية التركيبية هي ذاتها التي ستجري عند الأخرى المفترضة أيضا مع اختلاف الأدوات.

فتركيب وتآلف التفعيلات عملية تركيبية ، وتركيب وتآلف الصورة الشعرية المفترضة أداة للموسيقى الأخرى أيضا عملية تركيبية ، وحتى في داخل العملية الأولى فإن تركيب التفعيلات لغة عملية بذاتها وتركيب نوعية الحروف في الكلمة أيضا عملية بذاتها وإن كانتا تجريان في ذات الوقت ، وهكذا فإن من المفيد التميز بين هذه وتلك لتكون التسمية أكثر دقة وتحديدا منذ البداية ، ولذا فقد توصلنا إلى تسمية العملية الأولى بموسيقى النظم وهذه تتكون فور تحقيق شروط الوزن ولو كانت على أبسط ما يمكن باستخدام التفعيلة ذاتها بحروفها " فاعلن فاعلن فاعلن فاعلن " مثلا في المتدارك .




==========> يتبع