مصطلح يستعمل في أغلب لغات العالم بلفظه اليوناني ( كاتارسيس ) ، وقد يترجم أحياناً إلى كلمات تحمل معنى التطهير والتنقية أو التنظيف ( وهي الكلمة التي وردت في ترجمة أبي بشر بن متّى لكتاب أرسطو " فن الشعر " ).
والكلمة اليونانية Katharsis بالأساس من مفردات الطب وتعني التقنية والتطهير و التفريغ على المستوى الجسدي والعاطفي . وقد ارتبط المعنى الطبي القديم لهذه الكلمة بكلمة فارماكوس Pharmakos التي كانت تعني في البداية العَقّار والسّم في نفس الوقت ، أي معالجة الداء بالداء ، وإثارة أزمة جسدية أو انفعالية بواسطة علاج له نفس طبيعة المرض من حيث الخطورة . مع الزمن تحولت الكلمة إلى مفهوم فلسفي و جمالي له علاقة بالتأثير الانفعالي الذي يستثيره العمل الأدبي أو الفني أو الاحتفال عند الممارس والمتلقي كل من جهته .
فيما بعد دخل مفهوم التطهير مجال علم النفس و التحليل النفسي مع عالم النفس النمساوي فرويد Freud .
يعتبر أرسطو Aristote أول من طرح التطهير بمعنى الانفعال الذي يحرر من المشاعر الضارة ، وذلك في كتبه : " فن الشعر " ، " علم البلاعة " و " السياسة" وقد حدده كغاية للتراجيديا من حيث تأثيرها الطبي والتربوي على الفرد المواطن . فقد ربط أرسطو بين التطهير والانفعال الناتج عن متابعة المصير المأساوي للبطل ، واعتبر أن التطهير الذي ينجم عن مشاهدة العنف يشكل عملية تنقية وتفريغ لشحنة العنف الموجودة عند المتفرج مما يحرره من أهوائه.
ومع أن الفلاسفة اليونان الذين سبقوا أرسطو ، ومنهم إفلاطون Platon ، قد تطرقوا في أبحاثهم لهذا النوع من التأثير ، إلا أنهم لم يعطوه هذه الوظيفة الفعالة والإيجابية .فقد انتقده أفلاطون ضمن رفضه للمحاكاة ، واعتبر أن التأثير الذي يؤدي إليه الشعر والفنون هو تأثير سلبي ، لأنه يتأتى عن التمثل ويؤدي إلى إضعاف المتلقي وليس العكس .
ذكر أرسطو التطهير في كتابه " فن الشعر " بشكل سريع وعابر مرتين ( الفصل 6 ، والفصل 11 ) أما في كتاب " علم البلاغة " ، فقد ربط أرسطو ما بين مشاعر الخوف والشفقة اللذين يشعر بهما المتفرج الذي يتمثل نفسه في البطل المأساوي ، وبين التطهير . كذلك ربط أرسطو في كتاب " السياسة " ما بين التطهير والموسيقى حسب أنواعها ، وذلك من منظور طبي بحت .
فقد اعتبر الموسيقى " الكاتارسية" ( التطهيرية ) صالحة لعلاج بعض الحالات المرضية التي يكون المريض فيها مسكوناً بالأرواح . ذلك أن الموسيقى العنيفة تسيطر على المستمع وتمتلكه وتحقق النشوة الانفعالية واللذة ، فتكون بمثابة العلاج الذي يداوى المستمع ويطهره و ينقيه ، ونجد الفكرة ذاتها عند الفارابي .
والتطهير بالنسبة لأرسطو ليس مجرد علاج ، فهو أيضاً من الوسائل التي تحقق المتعة لدى المتلقي . فإلي جانب المتعة الجمالية التي تربط بالبناء الخيالي الذي تسمح به التراجيديا من خلال تحقيق المحاكاة والإيهام المسرحي هناك المتعة التي تتولد عن عملية التطهير ، وهذا ما تطرق إليه ابن سينا في شرحه و تخليصه لكتابات أرسطو حين قال " الكلام المتخيل ( أي الشعر ) ، هو الكلام الذي تذعن له النفس فتنبسط عن أمور وتنقبض عن أمور من غير روية وفكر و اختيار ، وبالجملة تنفعل له النفس انفعاًلا إنساناً غير فكري " .
مع التوجه لمحاكاة القدماء لدى الكلاسيكيين ، والعودة إلى المفاهيم الأرسطوطالية اعتباراً من القرن السادس عشر ، أعطي التطهير معنىً أخلاقياً دينياً واستخدم بمنحى تعليمي . كما رُبط بمفهوم الخطيئة في الدين المسيحي . أما البعد الأخر الذي كان موجوداً عند أرسطو ويتعلق بالمتعة التي يحققها التطهير ، فقد غُيب ضمن النظرة الكلاسيكية لضرورة الاعتدال في كل شيء . وقد اعتبر التطهير في التراجيديا الكلاسيكية الفرنسية وسيلة لتخفيف الأهواء ومسار العواطف . في القرن الثامن عشر ، بين الفرنسي دونيز ديدرو Diderot في كتابه " مفارقة حول الممثل " غموض فكرة التطهير ، إلا أنه أكد على التفسير الأخلاقي لها . والواقع أن مسرح القرن الثامن عشر غيب المنحى الطبي الذي طرحه أرسطو في التطهير ، لكنه حافظ على البعد الأخلاقي وعلى توظيف التطهير بمنحى تربوي أي لتعليم الفضيلة . كذلك فإن عرض العنف والجريمة على المسرح في القرن التاسع عشر في مسرح البولفار والميلودراما كان بشكل من الأشكال وسيلة تطهيرية تهدف لتفريغ شحنة العنف لدى المتفرجين وحثهم إلى الفضيلة .
وواقع الأمر أن المسرح الغربي في تطوره لم يلتزم دائماً بالقواعد الأرسطوطاليه الصارمة على مستوى الكتابة أوعلى مستوى فصل الأنواع ، لكنه لم يرفض المسار الدرامي الأرسطوطالي الذي يحقق تأثيراً عبر الحدث أو شخصية على المتفرج ، وهذا التأثير هو تأثير التنفيس والتطهير الذي نستشفه في مسرح الباروك وعلي الأخص مسرحيات الإنجليزي وليم شكسبير Shakespeare وفي المسرح الرومانسي وعلى الأخص الرومانسية الألمانية .
في القرن العشرين كانت هناك إعادة نظر بمفهوم التطهير من خلال إعادة النظر بكل وظيفة المسرح في المجتمع . وفي هذا القرن أيضاً تم ربط التطهير بعلم جمال التلقي وبمفهوم الاستقبال ، وبرزت أفكار جديدة حول هذا المفهوم . فقد بينت بعض الأبحاث أن التطهير قد ارتبط دائماً، وعلى الرغم من اختلاف النظرة إليه عبر العصور ، بعملية المحاكاة والتمثل والخوف والشفقة . ومن الواضح أن هذه السلسلة المتتابعة لم تكن موجودة بشكلها الخالص إلا في التراجيديا الخالصة في الظروف التي ولدت فيها والتي تمس جمهورها الخاص . وقد بات من المعروف اليوم أن هناك أنواعاً مسرحية لا تتبنى نفس المسار ولا نفس البنية ، وبالتالي لا يتولد عنها نفس التأثير . من جانب أخر صار معروفاً أن الخوف والشفقة لا يؤديان بالضرورة إلى التطهير ، بل إلى نوع من التنفس الآني كما هو الحال في الميلودراما والكوميديا وهذا ما طرحه الباحث الفرنسي شارل مورون Mauron في دراساته حول المضحك والتي تتبنى منهج التحليل النفسي . كذلك صار من الصعب الحديث عن التطهير بنفس المنظور القديم في الأشكال المسرحية الحديثة التي تتبنى أساس البنية الدرامية الأرسطوطالية .
في معالجته للمسرح الأرسطوطالي انتقد المسرحي الألماني برتولت بريشت Brecht كل البنية التي يقوم عليها هذا المسرح الذي يستلب المتفرج من خلال دفعه للتمثل بالبطل . وبالتالي فقد ناقش بريشت مفهوم التطهير من منظور إيديولوجي معتبراً أن المسرح الأرسطوطالي لا يؤدى بالضرورة إلى الغاية المرجوة منه ، فاستبدل التطهير كغاية المسرح بالتفكير والمحاكمة التي تجعل من المتفرج متلقياً فعالاً . لذلك فقد اعتبر بريشت أن توعية المتفرج في المسرح الملحمي تأتي أساساً من عملية كسر الإيهام داخل العمل المسرحي وجعل المطروح غريباً ، وبالتالي لا يصل مسار العمل إلى تحقيق التطهير .
في نظريته حول مسرح المضطهد ودعوته إلى الدور التحريضي للمسرح ذهب البرازيلي أوغستو بوال Boal أبعد من بريشت . فقد اعتبر في كتابه " مسرح المضطهد " أن النظام المأساوي بكل مراحله هو نظام قسري إكراهي ، وأن التطهير يتم في المسرح على المستوى الجماعي وليس الفردي ، وهو بذلك عملية قمع تفرض على مجموع المتفرجين .
من جهة أخرى ، عرف القرن العشرين مع الفرنسي أنطونان آرتو Artaud وبعد ذلك البولوني جيرزي غروتوفسكي Grotowski وغيرهما عودة إلى دور التطهير على المستوى الجسدي وعلى المستوى الروحي ، وذلك ضمن توجه العودة بالمسرح إلى طابعه الاحتفالي . وقد سعى آرتو في تنظيره للمسرح إلى تحقيق التطهير بمنظور مختلف عن المنظور الأرسطوطالي . فبينما كان أرسطو يرى أن التطهير يخلص المتفرج من أهواء معينة ويحقق عودته إلى المجتمع ، طرح آرتو التطهير بمنظور علاجي . فقد استند على حالة الطاعون الذي اجتاح مدينة مرسيليا عام 1720 وأدى إلى نسف بنية المجتمع والنظام والجسد ، واعتبر أن ذلك كان نوعاً من التطهير لأنه ألغى الماضي كلية ليخلق شيئاً جديدا .
من هذا المنطلق فإن وصول الممثل إلى حالة النشوة أو الوجد ، يوصله إلى التحرر . أما غروتوفسكي فقد تناول التطهير على مستوى عمل الممثل ، واعتبر أن التحرر ذا الطابع الصوفي الذي يصل إليه الممثل بأدائه ، ينعكس لاحقاً خلال العرض على المتفرج .
والحقيقة أن الطقوس والاحتفالات التي عرفتها أغلب الشعوب القديمة في مصر الفرعونية وفي الحضارة اليونانية ، كانت تهدف إلى التطهير على مستويين ، مستوى الجماعة ومستوى الفرد . فعلى مستوى الفرد ، وعلى الأخص الفرد المشارك في الطقس أو الاحتفال كما في الزار ، يصل الممارس إلى حالة انعتاق تؤدي إلى طرد الأرواح الشريرة من جسده ، فتوصله إلى الشفاء .
وفي بعض الطقوس الجماعية التي تقوم على التضحية يكون هناك نوع من التطهير ، يحرر الجماعة من إثم ما ، أو ذنب أو مرض .
أول من أعاد النظر بمفهوم التطهير من خلال ربطه بأصوله الطقسية ، وطرح العلاقة بين التطهير والطقس ، هو الفيلسوف الألماني فردريك نيتشه Nietzsche الذي اعتبر أن الطقس الديونيزيّ ، هو الطقس المثالي لتحقيق التطهير ، وبالتالي فإن المسرح الذي بني على هذا الطقس ، أخذ نفس الطابع وحقق نفس التأثير.
وقد اعتبر نيتشه أن التراجيديا اليونانية كما الطقس الديونيزيّ ، تؤدي إلى نوع من التطهير الجماعي ، وبالتالي فإن تأثيرها يمكن أن يقارن بتأثير طقوس أخرى واحتفالات سبقتها أو تلتها . تعتبر هذه الفكرة أساساً لنظرة جديدة إلى بعض الأشكال الاحتفالية . فقد اعتبر الروسي ميخائيل باختين Bakhtine ، أن للكرنفال كما يمارس في القرون الوسطى ، وظيفة تطهيرية جماعية ، لأنه يحرر الجماعة من المخاوف التي تتهددها . وذلك من خلال كسر الرتابة الزمنية لفترة محددة هي فترة الاحتفال ، ومن خلال السمة الأساسية للكرنفال ، أي التنكر الذي هو تغيير لوضع الذات .
ربط المؤرخ الفرنسي جان بيير فرنان Vernant ، بنية التراجيديا اليونانية بالبنية السياسية والاجتماعية والفكرية للحضارة اليونانية في فترة تبلور هذا النوع في القرن الخامس قبل الميلاد .
ولأن هذه الفترة تميزت بالانتقال والتحول من الثقافة القديمة الأسطورية والغيبية ، إلى قيم المدينة الوليدة ، فقد عكست التراجيديا التساؤلات التي طرحها المواطن حول نظام جديد لا يعرفه تماما .
وقد فسر فرنان دخول التطهير على التراجيديا ، بممارسات اجتماعية كانت تتم في اليونان قبل ظهور التراجيديا ، وتقوم على نفس مبدأ علاج الداء بالداء ، والخلاص منه بالنبذ ، ولكن على المستوى الجماعي ، بمعنى أنّ ما يتم في الجسم الاجتماعي ، شبيه بما يتم بالجسم الفردي ، حيث يجب تحديد موضع الداء لطرده منه .
وقد حافظ التطهير في التراجيديا على نفس المنحى الإيديولوجي ، فالبطل فيها هو الضحية ، والعقاب الذي يحل به ، هو خلاص مما هو استثنائي وطارئ على الجماعة .
وبذلك فإن التطهير الذي يشعر به المتفرج ، يدعم انتماءه كمواطن فرد إلي الجماعة المترابطة .
حلل علم الجمال وعلم النفس الحديث التطهير وتناوله من موضع التأثير على المتلقي ، فقد تم ربطه بالمتعة ، واعتبر أن انفعال المتفرج عندما يشاهد انفعالات الآخر على الخشبة هو متعة نفسية تنجم عن التمثل والإنكار ، وتتأتى أصلاً من اكتشاف أن المسرح هو وهم واصطناع وليس حقيقة .
جدير بالذكر أن فرويد هو أول من استخدم عام 1895 مصطلح التطهير بمعنى التفريغ العقلي ، وذلك عندما وصف طريقة علاجه لمرضاه المصابين بالهستيريا .
اعتمدت السيكودراما التطهير كغائِيّة ، وذلك في توجهها لاستخدام المسرح كوسيلة علاج تقوم على إخراج ما هو مكبوت في داخل المشارك ، واستحضاره على مستوى الوعي ، وهذا هو التطهير فيها .
في يومنا هذا ، يمكن إعادة النظر بقدرة المسرح على التطهير ، ومحاولة البحث عن هذا التأثير في أشكال فنية جديدة كالسينما والتلفاز ، ذلك أن هذه الفنون ، لها قدرة على المحاكاة والإيهام ، وتبدو أقرب إلي واقع المتفرج أكثر من المسرح " الآن " .
************************
والكلمة اليونانية Katharsis بالأساس من مفردات الطب وتعني التقنية والتطهير و التفريغ على المستوى الجسدي والعاطفي . وقد ارتبط المعنى الطبي القديم لهذه الكلمة بكلمة فارماكوس Pharmakos التي كانت تعني في البداية العَقّار والسّم في نفس الوقت ، أي معالجة الداء بالداء ، وإثارة أزمة جسدية أو انفعالية بواسطة علاج له نفس طبيعة المرض من حيث الخطورة . مع الزمن تحولت الكلمة إلى مفهوم فلسفي و جمالي له علاقة بالتأثير الانفعالي الذي يستثيره العمل الأدبي أو الفني أو الاحتفال عند الممارس والمتلقي كل من جهته .
فيما بعد دخل مفهوم التطهير مجال علم النفس و التحليل النفسي مع عالم النفس النمساوي فرويد Freud .
يعتبر أرسطو Aristote أول من طرح التطهير بمعنى الانفعال الذي يحرر من المشاعر الضارة ، وذلك في كتبه : " فن الشعر " ، " علم البلاعة " و " السياسة" وقد حدده كغاية للتراجيديا من حيث تأثيرها الطبي والتربوي على الفرد المواطن . فقد ربط أرسطو بين التطهير والانفعال الناتج عن متابعة المصير المأساوي للبطل ، واعتبر أن التطهير الذي ينجم عن مشاهدة العنف يشكل عملية تنقية وتفريغ لشحنة العنف الموجودة عند المتفرج مما يحرره من أهوائه.
ومع أن الفلاسفة اليونان الذين سبقوا أرسطو ، ومنهم إفلاطون Platon ، قد تطرقوا في أبحاثهم لهذا النوع من التأثير ، إلا أنهم لم يعطوه هذه الوظيفة الفعالة والإيجابية .فقد انتقده أفلاطون ضمن رفضه للمحاكاة ، واعتبر أن التأثير الذي يؤدي إليه الشعر والفنون هو تأثير سلبي ، لأنه يتأتى عن التمثل ويؤدي إلى إضعاف المتلقي وليس العكس .
ذكر أرسطو التطهير في كتابه " فن الشعر " بشكل سريع وعابر مرتين ( الفصل 6 ، والفصل 11 ) أما في كتاب " علم البلاغة " ، فقد ربط أرسطو ما بين مشاعر الخوف والشفقة اللذين يشعر بهما المتفرج الذي يتمثل نفسه في البطل المأساوي ، وبين التطهير . كذلك ربط أرسطو في كتاب " السياسة " ما بين التطهير والموسيقى حسب أنواعها ، وذلك من منظور طبي بحت .
فقد اعتبر الموسيقى " الكاتارسية" ( التطهيرية ) صالحة لعلاج بعض الحالات المرضية التي يكون المريض فيها مسكوناً بالأرواح . ذلك أن الموسيقى العنيفة تسيطر على المستمع وتمتلكه وتحقق النشوة الانفعالية واللذة ، فتكون بمثابة العلاج الذي يداوى المستمع ويطهره و ينقيه ، ونجد الفكرة ذاتها عند الفارابي .
والتطهير بالنسبة لأرسطو ليس مجرد علاج ، فهو أيضاً من الوسائل التي تحقق المتعة لدى المتلقي . فإلي جانب المتعة الجمالية التي تربط بالبناء الخيالي الذي تسمح به التراجيديا من خلال تحقيق المحاكاة والإيهام المسرحي هناك المتعة التي تتولد عن عملية التطهير ، وهذا ما تطرق إليه ابن سينا في شرحه و تخليصه لكتابات أرسطو حين قال " الكلام المتخيل ( أي الشعر ) ، هو الكلام الذي تذعن له النفس فتنبسط عن أمور وتنقبض عن أمور من غير روية وفكر و اختيار ، وبالجملة تنفعل له النفس انفعاًلا إنساناً غير فكري " .
مع التوجه لمحاكاة القدماء لدى الكلاسيكيين ، والعودة إلى المفاهيم الأرسطوطالية اعتباراً من القرن السادس عشر ، أعطي التطهير معنىً أخلاقياً دينياً واستخدم بمنحى تعليمي . كما رُبط بمفهوم الخطيئة في الدين المسيحي . أما البعد الأخر الذي كان موجوداً عند أرسطو ويتعلق بالمتعة التي يحققها التطهير ، فقد غُيب ضمن النظرة الكلاسيكية لضرورة الاعتدال في كل شيء . وقد اعتبر التطهير في التراجيديا الكلاسيكية الفرنسية وسيلة لتخفيف الأهواء ومسار العواطف . في القرن الثامن عشر ، بين الفرنسي دونيز ديدرو Diderot في كتابه " مفارقة حول الممثل " غموض فكرة التطهير ، إلا أنه أكد على التفسير الأخلاقي لها . والواقع أن مسرح القرن الثامن عشر غيب المنحى الطبي الذي طرحه أرسطو في التطهير ، لكنه حافظ على البعد الأخلاقي وعلى توظيف التطهير بمنحى تربوي أي لتعليم الفضيلة . كذلك فإن عرض العنف والجريمة على المسرح في القرن التاسع عشر في مسرح البولفار والميلودراما كان بشكل من الأشكال وسيلة تطهيرية تهدف لتفريغ شحنة العنف لدى المتفرجين وحثهم إلى الفضيلة .
وواقع الأمر أن المسرح الغربي في تطوره لم يلتزم دائماً بالقواعد الأرسطوطاليه الصارمة على مستوى الكتابة أوعلى مستوى فصل الأنواع ، لكنه لم يرفض المسار الدرامي الأرسطوطالي الذي يحقق تأثيراً عبر الحدث أو شخصية على المتفرج ، وهذا التأثير هو تأثير التنفيس والتطهير الذي نستشفه في مسرح الباروك وعلي الأخص مسرحيات الإنجليزي وليم شكسبير Shakespeare وفي المسرح الرومانسي وعلى الأخص الرومانسية الألمانية .
في القرن العشرين كانت هناك إعادة نظر بمفهوم التطهير من خلال إعادة النظر بكل وظيفة المسرح في المجتمع . وفي هذا القرن أيضاً تم ربط التطهير بعلم جمال التلقي وبمفهوم الاستقبال ، وبرزت أفكار جديدة حول هذا المفهوم . فقد بينت بعض الأبحاث أن التطهير قد ارتبط دائماً، وعلى الرغم من اختلاف النظرة إليه عبر العصور ، بعملية المحاكاة والتمثل والخوف والشفقة . ومن الواضح أن هذه السلسلة المتتابعة لم تكن موجودة بشكلها الخالص إلا في التراجيديا الخالصة في الظروف التي ولدت فيها والتي تمس جمهورها الخاص . وقد بات من المعروف اليوم أن هناك أنواعاً مسرحية لا تتبنى نفس المسار ولا نفس البنية ، وبالتالي لا يتولد عنها نفس التأثير . من جانب أخر صار معروفاً أن الخوف والشفقة لا يؤديان بالضرورة إلى التطهير ، بل إلى نوع من التنفس الآني كما هو الحال في الميلودراما والكوميديا وهذا ما طرحه الباحث الفرنسي شارل مورون Mauron في دراساته حول المضحك والتي تتبنى منهج التحليل النفسي . كذلك صار من الصعب الحديث عن التطهير بنفس المنظور القديم في الأشكال المسرحية الحديثة التي تتبنى أساس البنية الدرامية الأرسطوطالية .
في معالجته للمسرح الأرسطوطالي انتقد المسرحي الألماني برتولت بريشت Brecht كل البنية التي يقوم عليها هذا المسرح الذي يستلب المتفرج من خلال دفعه للتمثل بالبطل . وبالتالي فقد ناقش بريشت مفهوم التطهير من منظور إيديولوجي معتبراً أن المسرح الأرسطوطالي لا يؤدى بالضرورة إلى الغاية المرجوة منه ، فاستبدل التطهير كغاية المسرح بالتفكير والمحاكمة التي تجعل من المتفرج متلقياً فعالاً . لذلك فقد اعتبر بريشت أن توعية المتفرج في المسرح الملحمي تأتي أساساً من عملية كسر الإيهام داخل العمل المسرحي وجعل المطروح غريباً ، وبالتالي لا يصل مسار العمل إلى تحقيق التطهير .
في نظريته حول مسرح المضطهد ودعوته إلى الدور التحريضي للمسرح ذهب البرازيلي أوغستو بوال Boal أبعد من بريشت . فقد اعتبر في كتابه " مسرح المضطهد " أن النظام المأساوي بكل مراحله هو نظام قسري إكراهي ، وأن التطهير يتم في المسرح على المستوى الجماعي وليس الفردي ، وهو بذلك عملية قمع تفرض على مجموع المتفرجين .
من جهة أخرى ، عرف القرن العشرين مع الفرنسي أنطونان آرتو Artaud وبعد ذلك البولوني جيرزي غروتوفسكي Grotowski وغيرهما عودة إلى دور التطهير على المستوى الجسدي وعلى المستوى الروحي ، وذلك ضمن توجه العودة بالمسرح إلى طابعه الاحتفالي . وقد سعى آرتو في تنظيره للمسرح إلى تحقيق التطهير بمنظور مختلف عن المنظور الأرسطوطالي . فبينما كان أرسطو يرى أن التطهير يخلص المتفرج من أهواء معينة ويحقق عودته إلى المجتمع ، طرح آرتو التطهير بمنظور علاجي . فقد استند على حالة الطاعون الذي اجتاح مدينة مرسيليا عام 1720 وأدى إلى نسف بنية المجتمع والنظام والجسد ، واعتبر أن ذلك كان نوعاً من التطهير لأنه ألغى الماضي كلية ليخلق شيئاً جديدا .
من هذا المنطلق فإن وصول الممثل إلى حالة النشوة أو الوجد ، يوصله إلى التحرر . أما غروتوفسكي فقد تناول التطهير على مستوى عمل الممثل ، واعتبر أن التحرر ذا الطابع الصوفي الذي يصل إليه الممثل بأدائه ، ينعكس لاحقاً خلال العرض على المتفرج .
والحقيقة أن الطقوس والاحتفالات التي عرفتها أغلب الشعوب القديمة في مصر الفرعونية وفي الحضارة اليونانية ، كانت تهدف إلى التطهير على مستويين ، مستوى الجماعة ومستوى الفرد . فعلى مستوى الفرد ، وعلى الأخص الفرد المشارك في الطقس أو الاحتفال كما في الزار ، يصل الممارس إلى حالة انعتاق تؤدي إلى طرد الأرواح الشريرة من جسده ، فتوصله إلى الشفاء .
وفي بعض الطقوس الجماعية التي تقوم على التضحية يكون هناك نوع من التطهير ، يحرر الجماعة من إثم ما ، أو ذنب أو مرض .
أول من أعاد النظر بمفهوم التطهير من خلال ربطه بأصوله الطقسية ، وطرح العلاقة بين التطهير والطقس ، هو الفيلسوف الألماني فردريك نيتشه Nietzsche الذي اعتبر أن الطقس الديونيزيّ ، هو الطقس المثالي لتحقيق التطهير ، وبالتالي فإن المسرح الذي بني على هذا الطقس ، أخذ نفس الطابع وحقق نفس التأثير.
وقد اعتبر نيتشه أن التراجيديا اليونانية كما الطقس الديونيزيّ ، تؤدي إلى نوع من التطهير الجماعي ، وبالتالي فإن تأثيرها يمكن أن يقارن بتأثير طقوس أخرى واحتفالات سبقتها أو تلتها . تعتبر هذه الفكرة أساساً لنظرة جديدة إلى بعض الأشكال الاحتفالية . فقد اعتبر الروسي ميخائيل باختين Bakhtine ، أن للكرنفال كما يمارس في القرون الوسطى ، وظيفة تطهيرية جماعية ، لأنه يحرر الجماعة من المخاوف التي تتهددها . وذلك من خلال كسر الرتابة الزمنية لفترة محددة هي فترة الاحتفال ، ومن خلال السمة الأساسية للكرنفال ، أي التنكر الذي هو تغيير لوضع الذات .
ربط المؤرخ الفرنسي جان بيير فرنان Vernant ، بنية التراجيديا اليونانية بالبنية السياسية والاجتماعية والفكرية للحضارة اليونانية في فترة تبلور هذا النوع في القرن الخامس قبل الميلاد .
ولأن هذه الفترة تميزت بالانتقال والتحول من الثقافة القديمة الأسطورية والغيبية ، إلى قيم المدينة الوليدة ، فقد عكست التراجيديا التساؤلات التي طرحها المواطن حول نظام جديد لا يعرفه تماما .
وقد فسر فرنان دخول التطهير على التراجيديا ، بممارسات اجتماعية كانت تتم في اليونان قبل ظهور التراجيديا ، وتقوم على نفس مبدأ علاج الداء بالداء ، والخلاص منه بالنبذ ، ولكن على المستوى الجماعي ، بمعنى أنّ ما يتم في الجسم الاجتماعي ، شبيه بما يتم بالجسم الفردي ، حيث يجب تحديد موضع الداء لطرده منه .
وقد حافظ التطهير في التراجيديا على نفس المنحى الإيديولوجي ، فالبطل فيها هو الضحية ، والعقاب الذي يحل به ، هو خلاص مما هو استثنائي وطارئ على الجماعة .
وبذلك فإن التطهير الذي يشعر به المتفرج ، يدعم انتماءه كمواطن فرد إلي الجماعة المترابطة .
حلل علم الجمال وعلم النفس الحديث التطهير وتناوله من موضع التأثير على المتلقي ، فقد تم ربطه بالمتعة ، واعتبر أن انفعال المتفرج عندما يشاهد انفعالات الآخر على الخشبة هو متعة نفسية تنجم عن التمثل والإنكار ، وتتأتى أصلاً من اكتشاف أن المسرح هو وهم واصطناع وليس حقيقة .
جدير بالذكر أن فرويد هو أول من استخدم عام 1895 مصطلح التطهير بمعنى التفريغ العقلي ، وذلك عندما وصف طريقة علاجه لمرضاه المصابين بالهستيريا .
اعتمدت السيكودراما التطهير كغائِيّة ، وذلك في توجهها لاستخدام المسرح كوسيلة علاج تقوم على إخراج ما هو مكبوت في داخل المشارك ، واستحضاره على مستوى الوعي ، وهذا هو التطهير فيها .
في يومنا هذا ، يمكن إعادة النظر بقدرة المسرح على التطهير ، ومحاولة البحث عن هذا التأثير في أشكال فنية جديدة كالسينما والتلفاز ، ذلك أن هذه الفنون ، لها قدرة على المحاكاة والإيهام ، وتبدو أقرب إلي واقع المتفرج أكثر من المسرح " الآن " .
************************