شذوذ اضطراري بين الواقع والفن
قراءة فى رواي
ة صباح عبد النبى

إذا اتفقنا أن اللغة بشكل عام هي نظام صوتي يدل على تصور ذهني فإن اللغة الإبداعية تخلق تصورات ذهنية مغايرة للنظام الصوري المألوف ومن هنا فان عنوان شذوذ اضطراري عنوان مخاتل لأنه يحمل أكثر من تصور ذهني ففيه تصور جنسي وفيه تصور التمرد وفيه تصور الخروج على المسلمات وكسر حواجز المألوف بشكل عام وكأنما أرادت الكاتبة للوهلة الأولى أن تطرح روايتها العديد من الأسئلة منذ عنوانها لكن الشذوذ هنا يومئ إلى إشارة جنسية وهذا ما أكده متن النص من كثرة تركيز السرد على مناطق الغواية في الجسد تارة وعلى الفعل الجنسي الشيقى تارة أخرى في حين أنه في دلالته العميقة يعنى الانفصال عن واقع قاتل ومميت وربما كان اختيار هذا العنوان يستحث المتلقي على الولوج سريعا إلى عالم الرواية ليكتشف معنى الشذوذ المقصود ولماذا كان اضطراريا؟
ورواية شذوذ اضطراري للكاتبة صباح عبد النبي تحكى قصة نور بطلة القصة والتي تسكن قرية الحناين وهى إحدى قرى صعيد والتي تستعرض من خلال رحلة البطلة عالم القرية المصرية بما يحمل من معطيات ثقافية واجتماعية واقتصادية ترزح تحت خط الفقر ولقد نجحت الكاتبة في استعراض هذا العالم القروي وكأنها تردنا إلى سيرة القرية في كتبات محمد عبد الحليم عبد الله ويوسف القعيد فالرواية تجمع بين رؤية محمد عبد الحليم وعمق يوسف القعيد
ونجحت الكاتبة في تماسك الخيط الدرامي في الرواية حين تستعرض حياة البطلة نورا من بيت الجد ذي الزوجتين وتتمدد بالدراما مستعرضة رحلة البطلة مع المكان بما يحمل من ثقافة خاصة تخضعه لعالم رتيب محدد وصارم محكوم بالخرافة والسحر والميتافيزيقا والدجل وقيم بالية مهزومة تهزم خصوصية المكان وتقدمه عالما وسنانا معزولا يغرق في الخرافة والتخلف والانفلات من خلال سيرة البطلة وبنات أعمامها اللاتي توفى آباؤهم وتولى الجد ذي الزوجتين إعالتهن وتخرج من بيت الجد إلى استعراض القرية بعدسة سرد واعية تلتقط الأحداث وتربط بينها من خلال الممارسة اليومية لهؤلاء البنات مرورا بالمدرسة وبيت الثقافة وعالم الكنيسة والجامعة إلى أن تنضح الفتيات وتتحول حياتهن إلى الخصوصية من مشاريع الحب والتمرد حتى يأتي الجزء الثاني من الرواية متحولا بالبطلة من عالم القرية إلى التمرد والخروج على هذه التقاليد المميتة فتقرر البطلة نورا كسر عصا الطاعة وتهرب من القرية بعد تخرجها في الجامعة إلى القاهرة محاولة أن تعيش ذاتها هي ووعيها فتنتقل بنا إلى عالم مغاير وهو عالم القاهرة لبدا رحلة عملها كمدرسة في إحدى مدارس القاهرة ثم تنتقل بنا البطلة إلى عالم آخر وهو سفرها إلى إحدى دول الخليج باحثة عن اكتشاف ذاتها أيضا ثم فشلها وعودتها مرة أخرى إلى القرية لتجد أن أشياء كثيرة قد تغيرت ربما إلى الأفضل وربما إلى ما تريد الكاتبة أن تتنبأ به لهذا العلم الوسنان الغافي تحت مظلة الجمود والعزلة هذا هو الواقع الذي قدمته صباح عبد النبي في روايتها فماذا عن الفن؟

مادام السرد في الرواية يعبر عن اليومي المعيش وشهوة الوعي به فإن هذا اليومي المعيش يهيمن على الكاتبة فكل خبراتها تتجه هذه الوجهة وتدفعها إلى تشكيل فني روائي يعمل على خدمة هذا المعيش وتنظيمه في شكل جمالي فني فتقدم ضمن هذا الواقع اليومي نماذج كثيرة تعي جدلية العصر والإنسان فترصد حالات إنسانية منفتحة على عالم القرية والكون من حولها وتسبر أغوار النفوس فتتضاعف الحركة داخليا وتهتز الأعماق بعنف غريب مدهش يولد اللذة الصعبة التي تستقطب الانتباه إلى حيث الجذب والشد بين الذات المرصودة والفعل الخارجي كما في علاقة البطلة بالنهر
ويأتي المكان في هذه الرواية ليس بوصفه بقعة محايدة إزاء من يحييون فيه وإنما كانت الكاتبة واعية في توظيف المكان ليصبح هو البداية والنهاية فهو المكان االباعث روح التمرد وهو المكان الإطار وهو المكان الطارد بقسوة وهو المكان المستقبل بحميمية ولذلك فان الرواية تفوقت على نفسها فى تقديم وصفا دقيقا لسمات المكان حيث تدخل فى الحوارى الضيقة وتصف الجدران وترسم الآنية تفعل ذلك بعناية واهتمام ثم لا تلبث أن تصف المسلسل اللامتناهى للحركة اليومية داخل هذا المكان مسلسل يشمل كل أنواع الحركة من العارض اليومى والمؤسس الكيانى والنافل فى حياة شخوص العالم الذى يحيا داخل هذا المكان حتى تكاد هذه الرواية أن تكون سردا أمينا للحياة اليومية فى قرية الحناين ولولا ذاكرة الكاتبة التى تحاول همسا ان تربط بين الماضى والحاضر وان تشير إلى أن الزمن الذى تتم فيه الرواية زمن مركب تختلفط فيه الحياة اليومية بذاكرة مرهفة تعيد بناء الحية كما تشتهى لقلنا إن المكان هو البطل الفاعل فى هذه الرواية
ولذلك فهذ الرواية تسعى للعثور على الهوية فى المكان وتجد المعنى المعيش بل تكتشف المعنى والهوية عبر هذا الحث الدءوب عن التفاصيل والحركات والأصوات والزوايا والتاريخ والجفرافيا حتى يصبح المكان بكل تقلباته هو الملجأ وهو النفور فى مفارقة جميلة لكنها تنتصر للمكان فى نهاية الأمر حين يصبح عندها هذا المكان هو الأداة التى تناهض الموت وتتحدى سيل الزمن الذى يكسر الملامح ويهزم النفوس فنورا تجوب الأمكنة وتخترق الأزمنة بحثا عن انتصار بعيد عن قرية الحناين لكنها تعود اليها طواعية فبانتهاء هذه القرية تنتهى الذكريات والأفكار وينتهى جزء من شخصية الإنسان ولهذا كانت الرواية مبهرة
وهذا الانبهار الذى تولده الرواية يهب المتلقى جواز مرور الثقة فى الكاتبة عبر رؤيتها المرمزة فى الإجهاز الكامل للعالم القديم وبناء عالم جديد يقوم على التجريب والتمرد والخروج على التقاليد البالية ومحاولة اكتشاف الذات الانسانية من خلال تجريب عوالم أخرى وفى أماكن تتحقق من خلال أناسها الذين يجترحون الحياة ويقاومونها فى ضرب من التحدى
وهؤلاء الأناس المتورطون فى المكان مثل نورا البطلة وبنات عمها ومارى والجد والزوجات وألام وشاعر العطايفة وناظر المدرسة ومدير مدرسة القاهرة وغيرهم نلاحظ أن علاقتهم بالمكان علاقة هوية فهم يتحددون من خلاله فيحملون كل ما فى المكان من غير وشر ويمنحهم المكان مبر الحياة فمدرس اللغة العربية الأعمى لا يتورع عن اظهر نزوته الجنسية حين يتعمد اصطدام يديه بصدور الفتيات وأردافهن ومدير بيت الثقافة يحوله إلى وكر للجنس ومدير مدرسة القاهرة يحول المدرسة بعد الهمل إلى جراج للسيارات وفى كل هذا الصراع نجحت الكاتبة فى أن تجعل هؤلاء الشخوص لا يتوقفون للسؤال عن مبرر الحياة وسيطرة المكان عليهم إلا البطلة التى تساءلت فاكتشفت إنها إذا خضعت للمكان فسوف يقتلها فكانت الإجابة هى التمرد والخروج على هذا المكان وهذا يبرر لنا مدى تعاطف الكاتبة مع البطلة دون غيرها من الشخوص حتى أن الكاتبة خضعت لحركة البطلة الإنسانية داخل الرواية وأخضعت لها سارده الضمنى فالكاتبة تسير وراء البطلة ولا تسعى لصنه معادل فنى بين انطلاق البطلة وكبح جماح قرية الحانين لشخوصة وعمق ذلك أكثر توظيفها للضمير " أنا" فى السرد والذى يختزل المسافة بين البطلة والكاتبة فى ذهن المتلقى حد التطابق أحيانا فالسلوك والفكر عند البطلة يتلازمان تلازما قويا ولذلك فشخوص الرواية لا تطرح السؤال عن حدود الخير والشر فى حياتها وفى هذا الإطار فان شخوص الرواية جاءت متشابكة فى ضرب من الصراع المعلن والخفى مع الحياة اليومية وهو صراع لا متناه من ناحية ومن ناحية أخرى دال على نمط مقيت من العيش والايديولجيا والجميع فى حومة الصراع من اجل الوجود يتعرضون لانواع عدة من القهر بل يمارسونه على الغير احيانا فحمد خليل جد البطلة يعانى قهر زوجتيه ويمارسه على من حوله ومدير بيت الثقافة يعانى قهر العمل ويمارسه فى رغبة جنسية مع الساكتة وعامل مدرسة القاهرة يعانى القهر من مدير المدرسة ويمارسه والمدرسات المغتربات فى إحدى دول الخليج يعانين قهر الغربة ويمارسن هذا القهر بعضهن على بعض
ومن هنا نستطيع أن نحدد الايديولوجيا التى بثها السارد الضمنى فى هذه الرواية فى النقاط الآتية
1-ايديولوجيا محايثة للمكان تحتوى منظومة القيم ورؤية العالم وهى منثورة فى كل جزيئات النص ومؤسسة لنظامه الدلالى
2- ايديولوجيا فردية للسارد تكشف عن واعية الكائن الفنى والجمالى تحاول أن تبرز الواقع من خلال رؤيته هو لتتنبأ بتغيره فى المستقبل او ما تتمنى ان يكون عليه هذا المكان قرية الحناين
3- يتدخل السارد بصورة لا تحطم الإيهام بالواقع ولا تفسر القص فى مسارات مضاده لآليات نموه فيظل النص بعيدا عن الوعظ والخطابية واعيا لتوظيف الرموز والخرافة والسحر توظيفا كاشفا وناميا بالسرد لا مفتتا له ولا ملغزه ومن هنا فان الكاتبة استطاعت بوعيها الجمالى أن تقدم واقعا يعيش فينا جميعا بكل تناقضاته من خلال خط روائى وضعته الماتبة لنفسها معتمدة على مشهدية الأسلوب تارة وتقنية السينما تارة أخرى بيد أنى توقفت عن عدة ملا حظات فى الرواية أوجزها فيما يلى
1- تتعاطف الكاتبة مع العديد من نماذجها بحكم انسحاقهم تحت عجلة الحياة اليومية فتبرز نيتها الحسنة المتفائلة إزاء حالات الإحباط المتعددة فتلغى التدرج الطبيعى والمنطقى للحدث
"يجوس البائعة الجائلون خلال غرف المدرسين يحملون حقائيهم بمنتجات يمقتونها يسوقونها يفرغون مثاناتهم خلف سور المدرسة تصطف سيارات الأجرة مساء فى فناء المدرسة يغادرونها صباحا يرطبون يد العامل بجنهيات يقتسمها ومديره ظهرا تنفر اذناى من لهجة الطلاب لا اكتسبها اشعر بالغربة"
هذا التعاطف عبر النوايا الطيبة لا يوظف عملا فنيا متماسكا فيظهر الخلل فى البناء الروائى

2- تقدم القاصة نموذج المرأة فى حالة شبق دائم وأحيانا تفعتل هذا الشبق أو ترمز إليه بفجاجة كما جاء فى حديثها عن موظف بيت الثقافة حيث تقول
نتصايح بصبيانية يهرول الرجل إلى الباب نواصل الدق بشكل مختلف يفتح الباب ببطئ نندفع الى الداخل بأجسامنا كاملة متساوية الطول فيدفعنا إلى الوراء دون أن يلمس صدورنا كما يفعل معمل اللغة العربية الشيخ عبد الستار عندما نفسح له الطريق تتسكع عصاه فى فناء المدرسة تطول يداه نهودنا ومؤخراتنا بشثبرز نزوته تهز بدنه ترجرجه لايقوى على كبحها مرددا ليس على الأعمى حرج"
ولذلك كان للمرأة فى الرواية موقع محدد تحاول أن تخرج به من الدائرة الضيقة التى تعيشها وهى بيت الجد ضمن الواقع الاجتماعى المكبوت والذى تتمرد عليه البطلة بوصفها تقدمية لكنها تقدم المرأة فى المحتمع على شكل سلعة رخيصة كان مخلوقة للجنس فقط و وذلك حين تؤكد على معنى الجنس الذى يحوط معلم اللغة العربية الأعمى وتشير إليه من خلال ناظر المدرسة وتؤكده مع مدير بيت الثقافة الذى يمارس الجنس مع ساكته وطبيب الوحدة الصحية
3- تقدم الكاتبة المراة فى هذه الرواية كسلعة رخيصة محكومة بنوازع الجسد على طول الرواية وهذا ما جعل عنوان الرواية أميل للمعنى الجنسى من معنى الخروج أو التمرد
4- قدمت الرواية عالم القرية معزولا عن كل العالم من حوله فلم يرد فى الرواية فيما يتعلق بقرية الحناين سوى ذكر قرية العطايفة مما جعل المكان رغم فاعليته مبهما لا يعرف القارئ إلى بقعة فى صعيد مصر ينتمى هذا المكان فلم يرد ذكر المركز التابعة له هذه القرية ولاحتى المحافظة رغم انه كان أمامه مساحة واسعة للكشف عن ذلك فى انتقال البطلة من القرية إلى المدينة للدراسة فى الجامعة أو فى المدرسة الثانوية
4- أشارت الكاتبة إلى واعية ثقافية مهمة فى عالم القرية تلعب دورا هاما فى تشكيل الوعى الجمعى لعالم القرية وهى سلطة الخرافة والاعتقاد فى السحر والصوفية وخرج حجب الغيب أشارت إليها الكاتبة بشكل سطحى دون أن تكشف عن علاقة هذه الأشياء بالعلم الداخلى للشخوص ولا حركية المحتمع
5- تعاملت الكاتبة مع رموز التغيير فى المجتمع والوعى الثقافى بسطحية أيضا فحصرت دور بيت الثقافة فى الجنس فقط دون الكشف عن تناقضاته واثر هذه التنقاضات على المجتمع وهذا التوظيف أوقعها فى براثن المثقافة حيث تحدثت عن صور الزعماء وأرباب الفكر المقلوبة فى إشارة منها إلى الاهمال الثقافى وعدم الوعى مثل صور مصطفى كامل وتوفيق الحكيم وغيرهما وكان يمكن ان توظف هذا المعنى الرمزى بشكل اعمق وقدمت المدرسة ليست بعيدا عن المعنى الجنسى فى صورة ناظر مدرسة قرية الحانين الشبقى والذى يعمل على تقديم نزواته باستمرار
6- لم يرد فى الرواية أى ذكر لمعطيات الثقافة الأخرى كالراديو أو الصحف أو المجلات ولا ربطت ذلك بأحدث كبرى تكشف عن وجود حقيقي لقرية الحناين وتشابكها مع العالم وكأنما كانت تعمد إلى التعتيم على هذا المكان وفصله عن العالم كله وهذا لايخدم تحولات الأفضية الزمنية فى الرواية ويخلق ارتباكا فى المسافة بين زمن الكاتبة وزمن التلقى فهذه الرواية بهذا الشكل أميل إلى زمن الكتابة دون زمن التلقى مما يجعل حياتها قصيرة عند المتلقى
ولا أدرى لماذا تعمد الكاتبة إلى نشر غسيل الجنس فى عالم القرية دون غيره من ألوان الحياة الآخرة فالجد الأكبر رمز التاريخ والقيمة مشغول بالصراع بين زوجتيه على الجنس وموظف بيت الثقافة مشغول بالجنس وطبيب الوحدة وناظر المدرسة والبنات كان العالم كله فى حالة شبق
وتقترب الكاتبة تدريجيا من التحليل النفسى لشخوصها وتنسى أنها ترصد حركة خارجية فى الحدث الروائى فتغور عميقا فى نفسية المراة التى اتخدتها نموذجا لإحباط نفسى واجتماعى واسع النطاق ولذلك تجتهد فى وضوح من اجل التعاطف مع بطلتها منذ بداية القصة وحتى وان كانت تقدم البطلة كنموذج ثورى
ومع ذلك فان الفنان لا يمكن أن يكون مجرد ناقل لشئ ملقى فى الطرقات ولكنه يخلق مفارقة بين التعبير عن العالم وبين إعادة خلق هذا العالم ليس فى شكل دقيق بل ربما يعمد إلى أن يكون مضللا ولذلك قد يسعى إلى تدمير علاقة الفن بمرجعياته فيقدم الواقع من عدة وجوه ربما كان القبيح فيها هو المسيطر يقدمه لا ليمجده بل ليشير إليه وينبهنا إلى خطورته لنعى هذا الخطورة ونتفاداها فى معية رقى الفن بالسلوك وأتصور أن هذا ما كنت ترمى إليه الكاتبة فى روايتها