من الصعب وضع تعريف محدد للعولمة كونها تصف مجموعة من العمليات التي تغطي أغلب الكوكب أو التي تشيع على مستوى العالم. فمهوم العولمة يكتنز على مفاهيم وابعاد تتناول كل نواحي الحياة السياسية والإقتصادية والثقافية. فالعولمة السياسية ترتكز على مفهوم الأحادية، أي ارض بلا حدود، بينما تعتمد العولمة الإقتصادية مفهوم السوق، أي سوق بلا حدود. وتستند العولمة الثقافية ـ وهي موضوع بحثنا ـ على مفهوم الشمولية، أي ثقافة بلا حدود. والعولمة Globalization كمصطلع صيغ من قبل عالم الإجتماع الكندي مارشال ماك لوهان استاذ الإعلاميات الإجتماعية في جامعة تورنتو، عندما صاغ في نهاية الستينات مفهوم القرية الكونية. والعلم الذي يختص بدراسة العولمة هو علم العولمة Globology وهو حصيلة المنجز السريع والمتنوع للإنسان في دخوله الى قرن جديد. وهي في اللغة الإنكليزية تتألف من مقطعين Global+ isation والمقطع النحوي الأخير (isation) والمسمى (مورفيم) ذا دلالة على وجود فاعل يفعل، أي بمعنى تغيير خارجي. وهي غير العالمية Universalism والمتألفة من مقطعيين أيضا الاّ أن دلالة المورفيم (ism) ذا دلالة تحمل معنى التغيير من الداخل، أي بناء على المعطيات العلمية والثقافية والإقتصادية والسياسية للبلد. والعلم المختص هنا هو علم الصرف Morphology. والعولمة في اللسان العربي من (العالم) ويتصل بها فعل (عولم) على صيغة (فَوعَل) وهي من أبنية الموازين الصرفية العربية.
والعولمة بحقيقتها ليست فلسفة قائمة بحد ذاتها، وإنما منهج فلسفي متكون من عدة مفردات: سياسية واقتصادية واجتماعية جاءت ما بعد الفلسفة الذرائعية Pragmatism ويندرج الاثنان تحت إطار نظرية الأنظمة المعرفية Epistemology
وبظهور نظرية العولمة كمنهج عالمي، تبلورت ثلاث مواقف عالمية تجاهها:
* الرفض الكامل لطروحات العولمة وينقسم هذا الموقف بدوره الى قسمين: الرفض الإيجابي بالإستناد الى الإرث الحضاري والثقافي المعتمد على مرتكزات علمية وأقتصادية وسياسية ولوجستية ذات مستوى متقدم. تمثل هذا التيار فرنسا والصين. "ففي فرنسا صدر قانون سمي بالقانون التوجيهي تم التصويت عليه عام 1989 وأعيد اقراره في العام 1997 ومحتواه أن يفرض على القنوات الفرنسية أن تكون أغلبية البرامج التي تبثها من أصل أوربي. وهذا القانون موجه ضد الإنتاج السينمائي والتلفزيوني الأمريكي، ويمثل اتجاها داخل المجتمع الفرنسي والأوربي يدعو الى ايقاف مسيرة "أمركة العالم" Americanization. أما القسم الثاني، فهو الرفض السلبي المعلن وتمثل هذا التيار فنزولا وايران وعدد من الدول العربية.
* التقبل الكامل لطروحات العولمة الثقافية لحد الإنبهار بما تطرحه من أراء وأفكار دون تحفظات بإعتبارها لغة العصر، والسعي الحثيث من أجل تبني ثقافة العولمة بكل جوانبها السلبية والإيجابية لإعتقاد الأشخاص القائمين عليها بأنها محاولة جادة من أجل اللحاق بالركب. وهو أيضا ينقسم الى قسمين: الأول هو التقبل عن وعي وذلك بالإستناد الى تكامل البنية التحتية للبلد وتمثل هذا التيار في معظم الدول الأوربية ولبنان وعدد من دول الخليج العربي. أما القسم الثاني فهو التقبل في غياب الوعي الجماهيري لحقيقة مايجري على الساحة نتيجة غياب السلطة فجأة وفتح الحدود والمطارات والأجواء الكهرومغناطيسية دون رقابة ويتمثل هذا في العراق مابعد الإحتلال الأمريكي وعدد من الدول الأفريقية.
* الموقف الوسطي: وهو الموقف الرامي الى الأخذ بجوانب العولمة الإيجابية وتوظيفها للصالح العام من أجل الإستفادة من ثورتها التكنلوجية والمعلوماتية مع المحافضة على تراث وحضارة البلد وهويته الثقافية، وهذا الموقف لا يأتي الإّ من خلال خطط مدروسة بشكل علمي رصين وتوحيد الجهود السياسية والإقتصادية والإجتماعية من أجل خلق بيئة تتثاقف فيها مختلف التيارات الفكرية والعلمية وتأتي ماليزيا وسنغافورة على رأس القائمة وتتبعها سورية واليمن بدرجة أقل بسبب ضعف اقتصادهما وفقر بنيتهما التحتية.
والعولمة الثقافية توصف بأنها امبريالية ثقافية تسعى الى تهجين العالم وتجريده من خصوصياته، وفرض النموذج الثقافي الغربي على شعوب الأرض قاطبة، فهي لاتحترم الإنسان ولا تحافظ على جذوره وحضارته وموارده وتجاربه وثقافته. وقد جاءت العولمة نتيجة دراسات السلام والحرب التي بدأت اثناء الحرب العالمية وما بعدها، حتى اتت اكلها في نهاية الثمانينات بعد ظهور نزعة داخل الساسة الأمريكان في عدم كفاية البراغماتية Pragmatics التي كانت قائمة طيلة الفترة المنصرمة.
بنية العولمة الثقافية
* اللغة يجب أن تكون إنكليزية وباللهجة الأمريكية حصراً وهي الآن لغة الإعلانات التجارية ولغة التوفل وبرامجيات الحاسوب والإنترنيت.
* توظيف الإمكانية الهائلة لتقنيات الإتصال: شبكة الإنترنيت والهاتف الخلوي (GSM) والهاتف اللاسلكي الثابت (CDMA) بشكليهما: العتاد (Hardware) والبرامجيات (Software) وتسهيل عملية التواصل المجتمعي حتى اصبحت الدردشة (Chat) والفيس بك Facebook وخدمات الرسائل القصيرة (SMS) والمتعددة الوسائط (MMS) الشغل الشاغل لكافة مستويات المجتمعية في العالم.
* الغاء الحضارات وتذويبها في بوتقة الحداثة والعصرنة، وقد روج لهذه المقولة صموئيل هنتغتون استاذ في جامعة هارفارد في كتابه "صدام الحضارات" فهو حسب اعتقاده أنه في حالة وجود حضارات سيؤدي ذلك الى نشوء صراعات قطرية واقليمية ودولية. الاّ أن كتابه قد نقد بشدة وعلى يد حتى زملائه.
* الغاء التاريخ وحذف الماضي من سجلات العصر الراهن، وهذا مابشر به فوكوياما في كتابه "نهاية التاريخ والرجل الأخير" والذي قسم فيه الشعوب الى سادة كونيين عبروا الى نهاية التاريخ وحققوا اهدافهم وهم وحدهم يستحقون الحياة برفاهية، والمقصود بهم طبعا هم الأمريكان واليابانيين، أما البقية من الشعوب التي بقيت ترزح تحت اعباء الماضي ممن تمتلك الموارد الأولية فالأفضل لها تسليم مابيدها من موارد وتتلقى الإعانات من المنظمات الإنسانية.
* تذويب الهوية الثقافية لبلدان العالم كافة وتبني الثقافة الأمريكية، ففي كل مرة كانت العولمة الثقافية تقترب من اختراق مكونات الثقافة الأساسية عند أي شعب من شعوب العالم لم تكن الإستجابة اندماجا أو انسحابا، بل مزيداً من التشتت بالهوية كما جرى في الجمهوريات الإسلامية وغير الإسلامية التي استقلت عن الإتحاد السوفيتي السابق، بل وفي اوربا نفسها.
ان خطورة العولمة الثقافية هي أنها تدخل لكافة البيوت بسهولة ودون استئذان، عن طريق اجهزة الستلايت والحاسبات واجهزة الإتصالات الحديثة من انترنيت وهواتف خلوية، فالبرامجيات جميعها تجهز من قبل شركة مايكروسوفت، والأفلام جميعها أفلام هوليود باللهجة الأمريكة، وافلام الكارتون المعدة للأطفال تنتجها شركة والت دزني الأمريكية فاصبح توم وجيري يجريان على كل لسان طفل من القطب الشمالي الى القطب الجنوبي، والموسيقى نموذج مايكل جاكسون ووتني هيوستن والأكلات عبارة عن الكنتاكي الأمريكي والهمبيرغر والهوت دوغ ونفس الشيء بالنسبة للملابس والعادات والتقاليد. لقد اصبح الفلكلور العربي مهدداً بالضياع كما امست الملابس التقليدية العربية في خبر كان وبقي أن ننسى الكباب العراقي والمنسف الأردني والسلتة اليمنية والبزين الليبي ونفس الشيء بالنسبة لتقاليد الزواج والمآتم والأعياد... الخ.
وفيما يخص مجتمعاتنا العربية الإسلامية فإنها لازالت ترزح تحت اعباء الماضي الثقيل من مخلفات الإستعمار، والحاضر المستمر في صراعاته الأيديلوجية، ومستقبل غامض جعلت المثقف العربي يشعر باغتراب زمكاني سواء كان يعيش داخل أو خارج وطنه، "فالتحديات تفرض على التيارات الفكرية المختلفة في الوطن العربي استيعاب الرأي الآخر والإستماع اليه لا استبعاده، فالتحدي يشطب ذواتنا من الوجود، بغض النظر عن مسمى هذه الذات". فعلينا قبل كل شيء تحديد موقعنا من العالم ومن ثم صياغة مشروع عربي اسلامي لا لمواجهة العولمة بل من أجل التفاعل الحي الخلاق معها، بحيث نكون قادرين على تبادل مختلف أوجه الرؤى مع الثقافات الأخرى، فقد "انقضى العهد الذي كان ينظر فيه للعالم على أنه مجموعة من الفضائات المستقلة، سواء كانت هذه الفضاءات امماً متخيلة، أو أقاليم ضمن امم معينة، أو ثقافات تفصل بينها الحدود". كل هذا والثقافة العربية تعاني من عدة علل منها:
* عدم توفر معاهد ثقافية متخصصة للحفاض على تراثنا وحضارتنا العربية والإسلامية، وإن وجدت فإنها لازالت تتبع النظام التقليدي في الدراسة ولم تمتلك ادوات التقنية الحديثة لحد الآن.
* الطبقة المثقفة العربية منقسمة على نفسها وتعاني من صراعات اقليمية فردية وجماعية.
* عدم توفر دور نشر ثقافية بعدد كاف يوازي نظيرتها من دور النشر الأوربية.
* الترجمة: لعبت ومازالت تلعب دورا اساسيا في عملية تبادل المعرفة والتعريف بثقافات مختلف البلدان. مازالت اساليبها بدائية في بلداننا العربية في غياب الدعم المادي واللوجستي والتقني. ومن المفيد أن نذكر في حالة توفر ترجمات من اللغتين الأنكليزية والفرنسية الى اللغة العربية، الإّ أن العكس أيضا مطلوب من أجل ايصال مفردات الثقافة العربية للثقافات الأخرى.
* تعليم برامجيات الحاسوب وتدوين المكونات الثقافية من أدب وفن على الإنترنيت باللغتين العربية والإنكليزية لتكون متاحة للجميع غير متوفرة وشبه معدومة.
* تعليم المرأة لازال حبر على ورق في مختلف البلدان العربية كما أنه بدأ في الإنحسار حتى في أوائل الدول التي تعد أول من حملت لواء العلم والمعرفة ـ العراق ومصر ـ وهي ان كانت تشكل نصف المجتمع، فكيف نستطيع بناء مجتمع مثقف متعلم نصفه جاهل؟
* اللغة العربية وهي أهم مرتكز ثقافي بدأت بالإنحسار مؤخراً في اذهان حتى المتعلمين وخريجي الجامعات نتيجة عدم وضع برامج علمية حديثة في تدريس هذه المادة لكافة اقسام الكليات والمعاهد العلمية والإنسانية في الجامعات والمؤسسات الثقافية في المنطقة العربية، كما أن المناهج في المدارس تتسم بسطحيتها وبساطتها وتعتمد على حفظ الطالب كونها ترتكز على نحو المفردة والجملة فقط، في غياب الكتابة النصية وتبادل الرسائل والمخاطبات الرسمية وغير الرسمية.
* الهجرة الجماعية والفردية للمثقفين والمفكرين العرب سواء كانت هذه الهجرة داخل الوطن العربي أم خارجه قد ادت الى شلل واضح وعوز شديد في مكونات الثقافة العربية. وتشير التقديرات الى أن حوالي خمسة ملايين مهاجر عراقي حالياً خارج بلدهم أغلبهم من الكفاءات المتميزة موزعين بين بلدان اوربية واسلامية وفي استراليا والولايات المتحدة الأمريكية، وأكثر من هذا الرقم بكثير بالنسبة لمصر والجزائر وأقل بالنسبة لسوريا ولبنان.
كل هذه العوامل مجتمعة أدت الى الشعور بالإغتراب لدى المثقف العربي ـ كما أسلفنا ـ سواء كان داخل بلده مما يلاقيه من اجحاف السلطة وتحديد نشاطه وتحجيم امكانياته، بالإضافة الى عوز امكانياته المادية واللوجستية وضعته في دوامة التعويض القسري لمواهبه وقدراته الذاتية والجماعية، وإن كان خارج بلده فهو مصاب بداء الإنبهار لما وصلت اليه الثقافة الغربية من تقدم هائل في كافة الأصعدة وعلى مختلف المستويات، أما شبابنا فلم يكن لهم ملجأ سوى ثقافة الانفلات والتقليد الأعمى حتى لو كان للشيطان نفسه، فظهرت ما يسمى بثقافة الأيمو Emo وبدأت بالانتشار بشكل مخيف في الأوساط الشبابية على مستوى الوطن العربي . إن حاجة اي مثقف عربي لاتتعدى سوى الحصول على قلم وورقة يدون بها مايدور في خلده دون رقابة سلطوية، وأن يكتب مايشاء بلا مقص فكري، وأن يعبر عن رأيه بلا تحقيق درك السلطان، وأن ينعم بنومة هادئة من الثانية عشر ليلاً حتى الصباح دون مداهمة العسس. ولو انك سألت اي من مثقفينا فيما اذا كان يطمح لما وراء ذلك مما يخشاه الحاكم لكان جوابه كلا والف كلا، فهو لايريد أن يبني فرضيته على اعتاب كرسي آفل، كما يرفض أن يضع امكانياته ومواهبه في أروقة القصور البائدة أو أن يعلق صورته على عدد من الجدران سيأتي يوماً خلفه ليعلق تمثاله بدلاً عنها بعد أن يمسخ كل ما جاء به سلفه، فكل هذا لا يساوي شيئاً مقابل مملكة خالدة على مر العصور اسمها الفكر العالمي.